لبنان: خطورة تبسيط الصراع

TT

أخطر ما يمكن أن نفعله هو الركون إلى التبسيط المغري في توصيف ما حصل ويحصل في لبنان كما في العراق باعتباره صراعا طائفيا بحتا، فهذا التحليل سيقودنا في النهاية إلى الاستسلام الغريزي لنداء الهوية الصغرى مع التفكك المزري في الهوية الكبرى إلى حد أن لا يغدو غير السلاح وسيلة لتأكيد الذات، ولكنه في الحقيقة إعلان بهزيمتها أمام عجزها عن أن تبني وطنا. ليس في هذا الكلام إنكار للمحتوى الطائفي لما شهدته بيروت في الأسبوع الماضي، لكنه محاولة لموضعة الحدث في إطار المشكلة الكلية المتعلقة بأزمة «الدولة» في لبنان والعراق وغيرهما. الفرق بين مشروع الدولة في الشرق الأوسط عنه في أوربا، انه مشروع يغلب عليه الاصطناع كونه نتاج تسويات مرحلية أريد إلباسها ثوبا أبديا بدون توفر عناصر ذلك كما الإرادة لتحقيقه. الدولة في أوربا نشأت نشوءا طبيعيا فكانت صديقة لمجريات التاريخ مندمجة مع تطوراته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لكنه نشوء مؤلم لم يكن ثمنه هينا قط. ما يحصل عندنا هو محاولة «تطبيع» الدولة في سياق تاريخي وجغرافي وثقافي مقاوم لها، لا سيما عندما تكون الدولة مجموعة «مكونات» لها من وشائج ما قبل الدولة ما يجعل الأخيرة إطارا لتسوياتها كما رهينة لصراعاتها. الجغرافيا في منطقتنا ما زالت ثمينة والأرض تجد لها الملايين ممن يرددون أناشيد الفداء والكرامة المتماهية تماما مع مفهوم الغلبة. ولأن العوامل الجيوسياسية بهذه القوة في منطقتنا صارت عملية تشكيل الدولة لا سيما في البلدان غير المتجانسة اجتماعيا كلبنان والعراق فرصة لتدخل الآخرين لتحويل ما يجب أن يكون حراكا داخليا إلى جزء من التوازنات الإقليمية وهي تشهد ضغطا غير مسبوق نحو إعادة صياغتها. الصراع الإقليمي عندنا طريق مرشح دائما لحرب جديدة، والشرق الأوسط من بين الأماكن القليلة جدا في العالم التي مازالت تشهد حروب الأمم، ولأن الصراع بهذه الحدة والضراوة والخطر، يغدو الحراك السياسي وغير السياسي في المناطق الهشة مثيرا للحساسيات الإقليمية بقدر ما تبدو الأخيرة فاعلة في توجيهه.

هناك ثلاثة سيناريوهات معتادة لواقع تكون فيه الدولة اضعف من أجزائها، وتكون فيه هويتها في موضع السؤال، وأطرافها غير قادرين على صياغة عقد اجتماعي وطني يحمل قواسم شراكتهم؛ السيناريو الأول هو أن تنجح قوة خارجية في استغلال الفراغ الناتج عن غياب الدولة لفرض «سلامها الخاص» وتشكيل هوية هذه الدولة وفق مصالحها الاستراتيجية، وهو إلى حد ما كان الحال في لبنان قبل الانسحاب السوري، والثاني هو أن عجز الأطراف عن إنتاج أو إعادة إنتاج «التوافق» الوطني سياسيا يدفعها إلى محاولة تغيير الواقع على الأرض عبر العمل العسكري لإنتاج ظروف جديدة تسمح بهذا «التوافق» عبر تغيير مدركات اللاعبين حول أوزانهم وأوزان خصومهم، والسيناريو الثالث هو نجاح أحد الأطراف بفرض ديكتاتورية تستدرج توق الناس للسلام الاجتماعي لفرض هيبة دولة «وحدانية الطابع» على أجزاء يغلب عليها التنوع، وهو حل لا ينهي الصراع بقدر ما يكبته.

إن أيا من هذه السيناريوهات يحمل معه إشكالياته الخاصة التي تجعله غير قابل لأن يكون حلا دائما في مواجهة الحل الحقيقي وهو إنتاج مفهوم للدولة يقبله الجميع كصيغة للتعايش السلمي، وبالتالي للسلام الاجتماعي. عدم الوصول لهذه الغاية سيبقي الصراع قائما، وهو الوضع الأكثر احتمالا في الحالة اللبنانية حتى على المدى البعيد بسبب ضعف الموارد المتاحة لمشروع الدولة نفسه. تسرب الايديولوجيا والصراع الخارجي يعقد الصراع الداخلي، كما أن بقاء الأمر الواقع (الستاتيسكو) يخلق شعورا بحتمية الصراع، ومثل هذا الصراع سيقود تدريجيا إلى بروز المتطرفين في كل الأطراف، فضلا عن محاولة بعض السياسيين المعتدلين قبول التطرف داخل مكونهم كمعادل لتطرف الآخر.

لذلك يغدو الحد من «طائفية» الصراع ضرورة للحد من احتماليته، والإصرار على إنكار أن الصراع يجري حول مفاهيم مختلفة للدولة وليس حول رغبة كل طائفة بالاستئساد على الأخرى إنكار لوقائع جلية في طبيعة الصراعين اللبناني والعراقي، فالصراع في العراق اخذ يتخذ شكل الصدام بين مشروع الدولة نفسها وبين كل مناوئيه على اختلاف لونهم الطائفي، وهو في لبنان ومع غلبة لون طائفي معين على كل من المعسكرين ليس بعد تعبيرا عن فرز طائفي مطلق، واللجوء إلى تبسيطه كصراع سني شيعي يكرس حتميته في الوقت الذي يحتم على الآخرين الذين يتعاطون معه سياسيا أن يفرزوا أنفسهم بالنكوص إلى انتمائهم الأولي المحض وما يستجلبه من قراءة ضيقة تفض علاقتها مع الوطن كمشروع لا ينبغي التخلي عنه، لأنه في النهاية الحل الوحيد المقبول.