النكبة الأكبر

TT

يقول الدكتور علي زيعور في كتابه «التحليل النفسي والاناسي للذات العربية» إن العربي انطبع «بحب المآسي والعشق المرضي للحزن، بالخوف من الفرح، بنوع من الميل لتحطيم الذات، بإحساس الذنب، بتقييم سفلوي للذات، وبقبول تلذذي للظلم والرضى بالألم. لقد غرسوا الكآبة ورضعوها، خلقوها ثم عبدوها في البكاء والعويل».

تحتفل إسرائيل بستة عقود على قيامها ونحتفل هذا الشهر بالنكبة والشهر المقبل بالنكسة. لكن العويل يملأ أرجاء الأمة. والخوف يملأ روحها. والقلق يملأ مسامها. والفرقة هي السقي والزرع والنبت الوحيد. ما أن استرددنا جزءاً من فلسطين حتى قسمناه، ضفة وقطاعاً. ثواراً وخونة. وما أن سقط النظام الديكتاتوري المغلق في العراق، حتى انقسم العراق شيعة وسنة. مذابح وأشلاء، خراب ودمار وموت وحرب لم يعرف مثلها طوال حكم صدام حسين.

باسم تحرير فلسطين وقعت كل الانقلابات. أعلنت جميع حالات الطوارئ. امتدت أسوار السجون ووحدها علت وارتفعت فيما سقط وهبط كل تقدم وكل رخاء وكل اكتفاء. باسم فلسطين قام نظام شيوعي في عدن التي لم يكن معظم أهلها قد اطلعوا بعد على كليلة ودمنة. وسالت أنهر من الدماء بسبب الطبقات الكادحة والشغيلة في بلد لا مزارع ولا مصانع ولا شركات. وباسم فلسطين ذهب صدام حسين إلى الكويت وأسامة بن لادن إلى أفغانستان مرورا بالسودان.

النكبة الصغرى كانت ضياغ فلسطين والنكبة الكبرى كانت الضياع الذي حدث باسم ضياعها. ذهبنا إلى الحرب مبكرين غير مستعدين وذهبنا إلى السلم خاسرين وأذلاء. أعلنا الخوف من إسرائيل والحقيقة أننا نخاف من إسرائيل والحقيقة أننا نخاف من بعضنا البعض. مشرقاً ومغرباً. وليس من بلد عربي لم يدخل في محنة أو نزاع أو حرب مع جاره أو ابن عمه. والبعض عبر آلاف الأميال لكي يقاتل في بلد آخر أو مدينة أخرى. ولا نزال نتذكر في بيروت جميع الوجوه السمحة التي جاءت تقاتل في الزواريب والأزقة، التي لا تعرف الوصول إليها أو الخروج منها، إلا جثثاً حاملة أو جثثاً محمولة. أو مرمية.

النكبة الكبرى أن الدولة التي قامت في «الكيبوتزات» تتمتع بواحد من أعلى الدخول الوطنية في العالم وأننا، مجتمعين، نعاني من أسفل الدخول الوطنية في الأرض. والنكبة الأكبر أننا لا نعي ما نحن فيه. ولكي نفهم ما يقوله علي زيعور عن هذه الظاهرة البكائية الانتحابية، راجعوا، كل يوم على مدى الساعة، نشرات الأخبار. والبرامج. والخطب. والبيانات السياسية. وكيف انقلبت هذه الأمة وكأنها علامات الساعة.