لبنان مُجدّدا في قلب العاصفة

TT

هل لبنان اليوم في حرب أهليّة؟ بالطبع، وإلا فما معنى ما يجري اليوم في بيروت العاصمة وفي المناطق الاخرى؟ هل كانت هناك مؤشّرات لهذه الحرب؟ بالطبع، فهي كانت حربا أهليّة باردة، الكلّ يستعدّ فيها. منهم من كان جاهزا من الناحية العسكريّة، والبعض الآخر، كان قد بنى حساباته على خطوط حمر ـ كحماية له ـ لن يخرقها الآخر، ولكنها زالت كما تزول الخطوط المرسومة على رمل الشواطئ.

هل تختلف هذه الحرب عن سابقاتها؟ في جوهرها وطبيعتها هي حرب أهليّة. لكن ظروفها ولاعبيها يختلفون اليوم عما كانت عليه آخر حرب عاشها لبنان عام 1975.

الحرب اليوم هي بين لبنانيّين ولبنانيّين وهي مذهبيّة حتّى ولو حاول البعض تغطيتها بالشعارات القوميّة او الاسلاميّة. فهل يمكن اليوم إقناع جمهور حزب الله بأن قرارات الحكومة الاخيرة لا تستهدف الحزب؟ بالطبع لا. وفي المقابل، هل يمكن إقناع أهل بيروت من السنّة بأن ما جرى في مدينتهم، كان يرمي الى ضرب المؤامرة الصهيونيّة ـ الاميركيّة، والتي تنفّذ بأيد لبنانيّة؟ بالطبع لا.

بالمعنى السياسي، هناك تحوّل طبيعي في موازين القوى لمصلحة المعارضة وبالتحديد حزب الله. لكن الامر يبقى في القدرة على تحقيق المكاسب السياسيّة. فالحرب عادة يشنّها الاقوى. لكن السلم يحتاج إلى الخاسر ليقول نعم على طاولة الحساب، وهذا الأمر لم يحصل حتّى الآن.

بعد الحسم العسكريّ، هل يمكن جلب الآخر ذليلا إلى طاولة المفاوضات؟ في لبنان كلاّ. في لبنان لا يمكن إلغاء أحد. في لبنان لا يمكن تجاهل مبدأ الرئيس الراحل فؤاد شهاب والذي يقول بـ«لا غالب ولا مغلوب»، اللهم إلا إذا تم إلغاء الآخر عسكريّا وبالكامل. إذا، كيف يمكن حفظ كرامة الآخر وبعدها التحاور معه؟ حتى الآن، لم يقتنع المغلوب بأنه فعلا مغلوب، ولم يسعَ المنتصر حتى الآن لتهيئة وضع التلاقي، لذلك هناك مأزق كبير. فهل انتشى المنتصر بنصره؟ ممكن. لكن الخاسر عادة يُعيد حساباته، ويُحضّر للجولة المقبلة.

لذلك تبدو حال لبنان السياسيّة اليوم على الشكل الآتي:

نصر عسكريّ لحزب الله حاسم، سريع وخاطف، على فريق لم يكن جاهزا عسكريّا، وتسليم بيروت لأحزاب المعارضة.

قيادات الموالاة معزولة كلّ في جزيرته. (قد يُطلق البعض عليها تسمية الموالاة الافتراضيّة Virtual).

كلّ هذا في ظلّ تأكيد الموالاة، انها لن تفاوض تحت تأثير القوّة العسكريّة.

إذا، المواقف السياسيّة تبدو حتى الآن هي هي، حتى ولو كانت لغّة الحسم العسكريّ قد سبقت.

إذا ما الجديد؟

الجديد اليوم ان الحرب في بيروت قد أخذت بُعدا مذهبيّا، حتى وإن حاولت بعض القيادات السنيّة تبرير الامر.

كذلك، أمّن حزب الله بعد ما جرى دفعا وحريّة حركة مستقبليّة كبيرة جدّا، سوف تسمح له باستكمال كل مشروعه، خاصة المتعلّق بخططه العسكريّة. فهل يمكن بعدما جرى، الاعتراض، من ايّ كان في الدولة اللبنانيّة على أي نشاط يقوم به الحزب؟ بالطبع كلاّ.

وأخيرا وليس آخرا، تعمّمت الاشتباكات على كل الاراضي اللبنانيّة، خاصة على خطوط تماس الاحزاب والمذاهب والأديان، ليصبح كلّ لبنان جزرا مذهبيّة معزولة، متحاربة مع محيطها، فهل نحن أمام مراحل تكوّن عقليّة وثقافة الحصار Siege Mentality؟

هل يمكن ربط ما جرى بالإقليم؟

بالطبع، خاصة ان البُعد الدوليّ موجود اليوم في قلب الاقليم ويتمثل في وجود اميركا في العراق.

عادة، كان لبنان يتأثّر بما يجري بالإقليم. اليوم، وبعد ما جرى في بيروت، فقد يبدو ان المحلّي يحضّر لشيء اقليمي، خاصة ان هناك الكثير من السريّة حول ما يجري في المنطقة. فماذا يجري اليوم فعلا بين اميركا وإيران حول العراق؟ ولماذا توافق ايران على ضرب حليفها في العراق مقتدى الصدر؟ ولماذا تضر بحكومة نوري المالكي وبالتحديد جيش المهديّ؟ ولماذا عيّنت اميركا الجنرال الاميركي ديفيد بترايوس قائدا للقيادة الوسطى؟ فهل اطمأنّت لحال العراق؟ وهل يمكنها ان تطمئنّ لحال العراق من دون مساعدة ايران؟

في مكان آخر، ماذا يجري بالفعل بين سورية وإسرائيل؟ فهل هناك شيء فعليّ جدّي؟ ربما. لكن كيف يمكن لأولمرت في حاله السياسيّة المتأزّمة ان يفاوض ويعطي تنازلا عن الجولان؟ وهل تلعب سورية لعبة الوقت لتحسّن وضعها خصوصا ان بوش قد أصبح في الايام الاخيرة لولايته؟ ربما. وإذا كانت سورية قد وصلت إلى مرحلة بعيدة مع إسرائيل، فهل يُحسّن اليوم حزب الله وضعه في لبنان لأنه يعرف ان رأسه مطلوب في اي اتفاق مع سورية؟ أو هل ان ايران وسورية مجتمعتين تلعبان لعبة الوقت كلا في محيطها، ومن ضمن خطّة مرسومة مشتركة: ايران مع اميركا، وإسرائيل مع سورية. وفي الوقت نفسه تحاولان تحسين وضعهما على الارض عبر نزع أوراق اميركا القويّة من يدها، كما أوراق إسرائيل؟ ربما، خصوصا ان هناك مبدأ يقول: «من يمسك الارض والسلاح يُمسك القرار». وأخيرا وليس آخرا، هل يستبق حزب الله حربا ممكنة عليه؟ ربما، لكن مؤشراتها ليست ظاهرة.

لذلك، وانطلاقا من كلّ الاسئلة المطروحة أعلاه يجب فهم لماذا حدث ما حدث في بيروت، ولماذا تمّ تجاوز الخطوط الحمر وخصوصا المذهبيّة منها. فعادة، وعند تجاوز الخطوط الحمر، يكون الفاعل يحاول درء خطر كبير جدّا يهدّد كيانه وديمومته. او يكون ينتظر مكافأة كبيرة تتجاوز قيمتها قيمة تجاوز الخطوط الحمر وبفارق كبير وكبير جدّا. فأيّ من الاحتمالين ينطبق على وضع لبنان؟

* عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي