لبنان أمام حوار «الفرصة الأخيرة».. من جديد!

TT

لا أريد أن أتكهن حول مشاعر اللبنانيين إزاء جلسات «الحوار» التي دُعي إليها قادتهم في قطر، لكنني اتصور أن أي لبناني عاقل غير مستعد للمراهنة على نجاح المتحاورين في «حل» الأزمة، وإن كان يرجو بحرارة أن «يرتبّوا» خلافاتهم بحيث لا تفجّر الوضع.

فالتجارب السابقة مع حوارات «الفرصة الأخيرة» أثبتت للبنانيين ولغيرهم أنه لا «فرصَ أخيرة» في لبنان. وأثبتت أيضاً أنه لا قعرَ للبئر الذي يمكن أن ينزلقوا إليه في أي لحظة.

ثم أن أي ثقافة سياسية، كالثقافة السياسية اللبنانية، بُنيت جيلاً بعد جيل على أولوية عيش البعض «على حساب» البعض الآخر أو على أنقاضهم... وليس معهم، ثم غذّيت بفيتامينات التدخل الإقليمي الفعّالة، يستحيل أن تفرز غير مشاريع الاستقواء والإقصاء والإلغاء.

مع هذا، من الواجب إتاحة كل فرص التفاهم ليس لأنها كبيرة ـ فهي ليست كذلك ـ ... بل لأن تغييبها كارثيّ. ومن المستحبّ تدوير الزوايا وتقويم المنحنيات ولو بهدف شراء شيء من الوقت بانتظار تغيّر المعطيات الإقليمية المعطّلة للحلول.

لب الأزمة داخلي، طبعاً، بشهادة التاريخ المدوّن للبنان منذ القرن الـ19. ولكن أي بلد في العالم لا يعيش في فقاعة هوائية معزولاً عن العالم الخارجي. ولبنان منذ كان «كياناً» إقطاعياً متغيّر الحدود والظروف وجد نفسه معرضاً لهبوب رياح إقليمية أكبر منه. وهذه حقيقة حدت ببعض الكتاب خلال السنوات الأخيرة لاستحضار حالة التجاذب التي كثيراً ما وجد «الكيان» اللبناني القديم نفسه أسيراً لها بين والي دمشق ووالي عكا العثمانيين، ومن ثم إسقاطها على حاكم دمشق الحالي الذي هو رئيس الجمهورية العربية السورية الشقيقة... ومحتل عكا الحالي الذي هو رئيس الحكومة الإسرائيلية المعادية!

هؤلاء الكتّاب لم يتنبهوا في استحضارهم تلك الصورة من الماضي إلى حقيقتين مريرتين، أيضاً يخفق اللبنانيون غالباً في التنبه إليهما لمحاولة تجنيب بلدهم خطرهما.

الحقيقة الأولى أن والي دمشق ووالي عكا ما كانا على الدوام في حالة عداء... بل كانا في وضعية تنافس على النفوذ الإقليمي.

والحقيقة الثانية أن الواليين كانا سمكتين صغيرتين في بحر واحد هو بحر السلطنة العثمانية «سيدة النظام الأقليمي» وإحدى القوى العالمية الكبرى يومذاك.

اليوم أيضاً، ثمة مؤشرات لوجود تفاهمات ضمنية وعلنية ووساطات ناشطة مباشرة وغير مباشرة بين حاكم دمشق ومحتل عكا... بعضها ـ وهنا المفارقة الطريفة ـ يجري بوساطة وريث السلطنة العثمانية بالذات. وما يستشف من هذه المؤشرات أن «العداء» اللفظي الشرس ليس جوهرياً كما أنه ليس دائماً، بل هو أقرب ما يكون إلى تنافس مرحلي على تراتبية الموقع الإقليمي والحظوة الإقليمية عند «سيدة النظام العالمي» التي هي الولايات المتحدة. أضف إلى ذلك أن الموقف الإسرائيلي الرسمي الإيجابي جداً من النظام الحاكم في دمشق غدا معروفاً وموثّقاً، وقد تأكد في غير مناسبة على ألسنة كبار الساسة والمسؤولين العسكريين والأمنيين الإسرائيليين.

وحتى الشقّ الإيراني من المعادلة لا يوحي مطلقاً بأن كلمة «العداء» كلمة دقيقة لوصف الوضع الراهن، رغم الجعجعة التضليلية الإسرائيلية. فما يصدر عن واشنطن، بجمهورييها وديمقراطييها، بعيد جداً عن الإيحاء بأنها تخطط لنقل تصدّيها للمشاريع النووية الإيرانية وامتداداتها الاستراتيجية السياسية في عمق العالم العربي من الكلام إلى الفعل. ولقد تبيّن عملياً من خلال ما فعله «حزب الله» في لبنان خلال الأسبوعين الأخيرين الفارق الأساسي بين محدودية الدعم اللفظي والمعنوي الأميركي والدولي عموماً للسلطة الشرعية اللبنانية... وطبيعة العلاقة العضوية التي تربط بين «حزب الله» وداعميه.

وتبيّن أيضاً – وهنا النقطة الأهم – أن إيران مقتنعة، وهي محقة في ذلك لتاريخه، أن المجتمع الدولي قد لا يسير في ركاب واشنطن حتى لو اتخذت قراراً حازماً بالحسم العسكري لقطع الطريق على مشروعها النووي.

ثم أن واشنطن، سواء كان الرئيس بوش مقتنعاً بأنه أضحى «بطة عرجاء» أم لم يقتنع، لا تظهر وكأنها جاهزة لتحقيق الاختراق السياسي الإقليمي الوحيد الذي يمكن أن يعطي مبادراتها في المنطقة أي مقدار من الصدقية، ألا وهو «الاختراق الفلسطيني».

فلا هي، أصلاً، في سنة انتخابية أميركية حساسة، في وارد الضغط على الحكومة الإسرائيلية الضعيفة في وجه خصومها من اليمين الليكودي المتشدد، ولا حكومة إيهود أولمرت الهزيلة تتحمّل أي ضغط لو تصادف وأتى عرضاً.

وفي المقابل، تحقّق طهران الانتصار التكتيكي الواحد تلو الآخر، مستفيدة من ثلاثة عوامل:

- الاستثمار المالي والتسليحي والإعلامي الإيراني المجزي في المنطقة العربية.

- الطريق المسدود إسرائيلياً، كما يظهر، أو التفاهم الضمني على «التعايش» بينها وبين إسرائيل... كما يقال همساً وكتابةً بعض الأحيان.

- المناخ الدولي العام الذي ما عاد مستعداً لإيجاد الأعذار لواشنطن على مغامراتها، كما فعل عندما تحركت ضد أفغانستان والعراق تحت وطأة «جرح» هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. مع ملاحظة أن قوى أوروبية وثيقة الصلة بـ«لوبياتها» الإسرائيلية تتصرف تماماً ضمن وفق هذا المناخ.

في مثل هذه الظروف الإقليمية والدولية من مصلحة اللبنانيين جميعاً، التزام الهدوء والتفكر ملياً بما يمكن أن يحدث لكيانهم الهش.

فلا العجز الأميركي بالضرورة سيستمر، ولا الصفقة الأميركية – الإيرانية – الإسرائيلية التي يحلم بها البعض محصّنة ضد المتغيّرات المستقبلية. وبناء عليه، تصبح مغامرة بعض اللبنانيين بخوض حملات إلغائية ضد شركائهم في الوطن مغامرة قاتلة يستحيل ضبط أبعادها واحتواء عواقبها.