حرية الفكر

TT

كان من الطبيعي للأدباء الساخرين وهم يواجهون قمع السلطات وضغط الرأي العام المتخلف، أن يعبروا في أدبياتهم وتقليعاتهم عن سخطهم على هذا الاضطهاد. ولعل ما أنشده محمد مهدي الجواهري في إحياء ذكرى أبي العلاء المعري من أبلغ ما قيل في هذا الصدد عندما قال ذلك البيت الخالد:

لحرية الفكر تاريخ يذكرنا

بأن ألف مسيح دونها صلبا

كان بين الحاضرين طه حسين الذي ذاق طعم الاضطهاد الفكري. وعندما ناشد المستمعون الشاعر العراقي أن يعيد، تولى طه حسين الإعادة فأنشد قائلا:

لحرية الفكر تاريخ يذكرنا

بأن ألف ألف مسيح دونها صلبا

انبرى الظرفاء في ابتداع النكات عن قمع الفكر ولجوء السلطات إلى أساليب التعذيب فقالوا إن علماء الآثار في مصر عثروا على تمثال فرعوني لم يستطيعوا تحديد عصره أو هويته. أمر عبد الناصر بإحالة التمثال إلى المخابرات للبت في ذلك. جاءه في اليوم التالي أحد ضباط المخابرات وقال له تأكدنا أن هذا التمثال هو تمثال رمسيس الثاني. فسأله ناصر وكيف أثبتم ذلك؟ فأجابه: «هو اعترف بنفسه يا سيادة الرئيس».

تكرر فحوى هذه النكتة في عدة صيغ وفي مختلف الدول العربية. قالوا إن وفودا من العلماء اجتمعوا في أفريقيا وعثروا على حيوان غريب حاروا في أمره. جاء الوفد الأمريكي بخبراء من جامعة هارفرد، فحصوا الحيوان وعجزوا عن تحديد فصيلته. بعث الإنجليز على علماء من أكسفورد في علم الوراثة وفحصوا «دي إن إيه» الحيوان وفشلوا في محاولتهم، وهكذا حتى جاء دور العلماء العرب فبعثوا على ضابط مخابرات من سورية. اختلى الضابط بالحيوان وغاب به لساعات طويلة حتى قلق الحاضرون عليه. فدخلوا المكان ليروا ما حدث فشاهدوا ضابط المخابرات السوري منهمكا بالضرب على الحيوان وهو يصرخ به: «قول، اعترف بأنك قرد!».

وهكذا شاع بين المفكرين والأدباء أن السكوت هو الطريق الوحيد للسلامة وأكل العيش. لخص ذلك الأب انستاس ماري الكرملي في اللوحة التي علقها في صدر مجلسه في بغداد بهذه الكلمات: «ممنوع الكلام في السياسة والدين».

بيد أن الكرملي كان في الواقع متحررا في شعاره. ففي مكان آخر تأوه أحد المواطنين من شدة الحر فقال: «اوف! الله يلعن هالحر»، فقال له زميله: «أرجوك! لا تتدخل بالدين والسياسة وتورطنا».

وهكذا أصبح «الرأي» أول شهيد لعالمنا العربي المعاصر. التقى ضابط مصري بمعلم سوداني وصحافي من العراق. وجرى الحديث فسأل المصري المعلم السوداني: «بيقولوا إن أكل اللحم يضعف القدرة الجنسية. إيه رأيك باللي قالوه؟» فأجابه السوداني: «يعني إيه اللحم؟». وقال الصحافي العراقي: «يعني إيه شنو رأي؟».