أليست حقيقة أن نسيجنا المجتمعي بات ممزقاً؟!

TT

هذه المرة، وبعيداً عن السياسة وهمومها وقضاياها، تختلج النفس رغبة في البوح المنطلق من نظرة تأمل لعالمنا الكبير بما فيه من تحولات، وللإنسان بما يعتلجه من أوهام وأزمات وصراعات.

ولعل المحصلات المتراكمة والزاخرة بالذكريات والأحداث المشوقة، قادرة على كشف واقعنا، حيث يتناقلها جيل عن جيل، فتخلد في الأذهان، فهي من جهة تصف لنا الحاضر مقارنة إياه بالماضي، وتستعيد عيش الآباء والأجداد في صورة تراثية من جهة أخرى.

جدتي، رحمها الله، رحلت عن دنيانا قبل بضع سنين، وكانت قد تجاوزت المائة عام من عمرها، ولكن بقيت أقوالها وعباراتها وتعليقاتها المؤثرة لا تلبث ان تتردد على مسمعي حينما يجمعها رابط بموقف أو حدث ما. على أنه ليس بالضرورة ان تكون مثقفاً حتى تقرأ التاريخ، وتحلل معضلاته وتربط علته بمعلوله، فالكثير من كبار السن، ومنهم ممن لا يحملون شهادات علمية، أو ربما لا يجيدون القراءة والكتابة، يدهشونك بتوصيفهم الدقيق للكثير من إشكاليتنا المزمنة. ثمة عبارة أو تعليق بسيط صادر من هذا الكهل او تلك العجوز يسترعي انتباهك، وعندما تخضعه للدارسة والتأمل تجد انه يصّور كل الحكاية، وما أدراك ما الحكاية!

كانت رحمها الله تعشق سرد القصص والحكايا، شأنها شأن الكثيرات من النساء ممن في مرحلتها العمرية. عبارات كثيرة تهمس بها بلغتها العامية

(السعادة في القناعة ماهي بجمع المال). سألتها مرة عن الفارق بين حياتنا المعاشة وزمانهم الماضي، أجابتني «قبل سبعين سنة، كانت حياتنا صعبة ومتعبة، لكن كنا مرتاحين البال سعيدين ماهو مثلكم الحين حياتكم سهلة وانتم مرتاحين، لكن وين راحة البال وين الضحكة».

تشخيص دقيق لواقع الحال، وكأنها تريد أن تقول رغم المعاناة وشظف العيش، إلا ان السعادة والقناعة وراحة البال ساكنة في جوفهم وعلامات بارزة لمحيطهم الاجتماعي، في حين أن عصرنا وبرغم توفر وسائل الراحة والمعلومة والتقنية فيه، إلا ان التعاسة والوحدة والكآبة هي الأكثر انتشاراً بين شرائح مجتمعاتنا. هذه الرؤية الفطرية لحياتنا، تتكشف حقيقتها لنا حين إسقاطها على واقعنا، وإلا ما معنى تلك الدراسات الأخيرة عن حالة سكان كوكبنا، فقد أشارت الدراسات الى ان أغلب المجتمعات تعاني من حالة الاكتئاب والاضطرابات النفسية والقلق الدائم، وإنها تفتقد في أعماقها الى أدنى درجات الاهتمام والرعاية والعواطف الإنسانية.

من الواضح أن ثمة أزمة نعاني منها، محيطها الأخلاق والوعي والفهم والقيم والثقافة، والمعضلة تتضح في الوحل المادي الذي غرق البعض منا فيه، وبات همه السعي خلف الرغبات والشهوات والملذات، وكأن الحياة ما هي إلا حلبة لإبراز قدراته النرجسية وفرديته المغالية في الاستحواذ وإشباع الذات، ناهيك عن فئة أخرى احتقرت الدنيا والذات وفقاً لقناعات ليست بالضرورة ان تكون صحيحة، فكانت نهايتها اما التقوقع ورفض المجتمع واما الانتحار والموت الحزين. ويبدو أن قلوبنا في طريقها الى التصلد، فضلوعنا تئن من الهموم وتخبطنا لا يزيد نومنا إلا أرقا. من نلوم إذن؟! رتم العصر وماديته..أم العلم وتسارعه..أم الإنسان ذاته بطباعه وخصائصه وسلوكه وملامحه وتفاعله وكينونته. كل الدراسات تؤكد أنه كلما تقدم الزمن خطوة تقدم العلم خطوات، وان إفرازات البحث العلمي المقبلة ستصب في خانة رفاهية الإنسان، لكن هذا لا يعني بالضرورة إسعاده.

وفي ظل هذه التداعيات، نتساءل أليست حقيقة أن نسيجنا المجتمعي بات ممزقاً؟ أعني علاقاتنا الإنسانية وخيوط تواصلها الاجتماعي. وهل ثمة أسباب ألحقت بنا كل هذا الانحدار والتأزم؟ لماذا الحروب والقتل والتدمير؟ لماذا لغة التطرف والإقصاء والاستئصال بدلا من لغة الحوار والتسامح والتعايش؟ هل التسارع العلمي خلق فينا شيئاً من التناقض وعدم القدرة على الثبات، أم انه التيار المادي الذي شدنا بريقه، فأحدث تلك الهوة ما بين العلم والأخلاق فتلاشت عنا راحة البال وفق وصف جدتي؟ أم انها أزمة أخلاق ووعي وفهم خاطئ للمفاهيم؟ أو لعله اعتناق خاطئ لأيديولوجيات مريضة؟!

كم نحن بحاجة الى تفريغ الهواء الفاسد في صدورنا، والى بث الحب، ولا شيء غير الحب، والى مراجعة صادقة للذات ولقيمة الأشياء في عقولنا ولحقيقة الحياة ذاتها. ونتوق الى أن نعيش أياماً شبيهة بتلك التي عاشها أجدادنا ذوو الفطرة النقية فكانوا مسالمين ومتناغمين ومتصالحين مع ذواتهم ومع ما حولهم من دون تصنع أو تشنج، فكان التآلف والإخاء والتسامح والأجواء المملوءة بالرقة والحنو والسمو وألحان السكينة.

هذه معضلة وتلك حلولها، ويبقى الانسان في نهاية المطاف هو المسؤول والقادر على تحديد شكل ولون ورائحة حياته، هذا إن أراد فعلا أن يشكل حياته!

www: zuhair-alharthi.8m.com