الصين والتبت.. وعبرٌ لمن يعتبر

TT

تُلقنا الحرب الإعلامية التي تجمع أنصار حركة تحرير التّبت بالنظام الصيني درسين مهمين: أولها أن الإعلام يستطيع أن يكون شديد الفاعلية لخدمة قضايا الضعفاء، إذا أُحسن استخدامه. فبدل أن نشاهد هذه السنة الاحتفالات التقليدية لتمرير شعلة الأولمبياد، تفرجنا على «عمايل» حكومة في المنفى وحفنة من المناصرين لا حول لهم ولا قوة، وقد افسدوا على «الغوليات» الصيني فرحته بتنظيم الاولمبياد، ونجحوا في نقل الاهتمام عن أكبر التظاهرات الرياضية في العالم إلى التركيز على فضح تجاوزات العملاق الاقتصادي الجديد في هذه المنطقة من العالم. بضعة رجال ونساء استطاعوا أن يسجلوا نقاطا ضد الصين ويصيبوا أهدافهم أولا، حين أحسنوا اختيار التوقيت الملائم لبدء حملتهم من جهة، ومن جهة أخرى حين احكموا تنظيم حركاتهم الاحتجاجية وتنسيق الأدوار في لعبة القط والفأر والشعلة الاولمبية. حتى تهيأ لنا أن أنصار تحرير التبت، الذين استطاعوا أن يتسّللوا في كل مواكب الشعلة الاولمبية منتشرون في كل شارع وفي كل مدينة. لقد نجح هؤلاء إلى درجة التأثير على وسائل الإعلام الغربية، التي راحت تتخلى عن حيادها ومهنيتها وتقف بصفة واضحة ضد الصين: بدءا بالتغطية الإعلامية لأحداث الانتفاضة التي جاءت جدّ مختزلة، فلم تُصور التّبتيين إلا وهم الجانب الطّيب المضطهد، أما الصينيون فكان لهم دور الأشرار السفاحين، إلى غاية الأخطاء المهنية التي وقعت فيها وسائل إعلام معروفة كموقع سي.ان.ان الذي نشر صورة مُكبرة لشاحنة عسكرية صينية على أن عليها آثار صدمات ناتجة عن قمع التبتيين، بينما الصورة الأصلية تُظهر الشاحنة وعليها أثار حجارة المتظاهرين التبتيين، وأخطاء أخرى كثيرة لا يسع المكان لذكرها. حتى منظمة «مراسلون بلا حدود» التي التزمت صمت القبور فيما يخص قضية مساجين «غوانتانامو» ولم نرها تحرك ساكنا للتنديد بانتهاكات الصين لحقوق المسلمين «الهوي» في مقاطعة شينجيانغ المسلمة باسم محاربة «الإرهاب» نراها وهي تقيم الدنيا ولا تقعدها وتبدي حماسا لا مثيل له إزاء قضية التبت. الأداء الجيد هو أيضا ما وجب الإقرار به للزعيم الروحي للتبتيين «الدايلا لاما» الذي نجح في نقل صورة إيجابية عن البوذية وعن بلاده للغرب، حتى أصبحت هذه المنطقة تظهر كجنة روحانية تنتشر فيها قيم العدالة والتسامح ولا يعيش فيها إلا رهبان مسالمون طيبون، وقد استطاع تشكيل هذه الفكرة تدريجيا، بفضل صداقاته العديدة مع كبار فناني ومشاهير الفن والموسيقى، الذين أعجبوا بالأفكار البوذية وراحوا يُروجون للقضية التبتية، ويدافعون عنها في كل منبر، لكن هل تناسى هؤلاء الحقائق التاريخية، التي تفيد بأن الرهبان التبتيين حكموا البلاد بالحديد والنار وكانوا يتحكمون في كل ما يوجد على سطحها من أراض وأملاك، حتى حرية باقي شعبها من الفلاحين، الذين كانوا يعتبرون «عبيدًا لهم»؟؟

في نفس الوقت الذي نرى فيه الإعلام الغربي يدخل في مواجهة مفتوحة مع الصين، نرى حكومات نفس هذه الدول وهي تحاول «تهدئة اللعبة» بل وتتحاشى الخوض في انتقاد من أصبحت الآن تحقق معدلات نمو تسيل اللعاب، وهي الصين. إنه الدرس الثاني الذي نستخلصه من مسلسل الصراع الصيني التبتي. فالمصالح الاقتصادية أصبحت كل شيء، إلى درجة أصبحت فيها الديمقراطيات الغربية تركع أمام الأنظمة التي تصفها بـ«الدكتاتورية» كالصين ولا تنتقدها إلا بأطراف الشفاه فـ«تأسف» و«تحزن»

و«تدعو» ولا تستعمل إلا التعبيرات الّلينة الخفيفة لوصف موقفها الرسمي من تجاوزات هذه الأخيرة لحقوق الإنسان، بينما لا تنفك عن إعطاء الدروس وتهديد ووعيد أنظمة أخرى لتجاوزات، غالبًا ما تكون اقل خطورة، فتظهر لنا مفارقات غريبة كأن نرى الرئيس الفرنسي، وهو يبعث مرسالا شخصيا للاعتذار لرياضية صينية، بمجرد أنها دُفعت أرضاً عن غير قصد، بينما يرفض الاعتذار للشعب الجزائري بكامله، عن فظاعة الجرائم التي اقترفت في حق أبنائه إبان عقود من الاحتلال، فهل يصح أن تُرجّح في موطن حقوق الإنسان كفّة مليار مستهلك صيني على كفّة أكثر من مليون ونصف مليون شهيد؟؟ مفارقة أخرى أن نرى جوزي مانويل باروزو رئيس الجنة الأوروبية، في رحلة التّودد الأخيرة لبكين، وهو يصّرح أن «على العالم أن يتذكر أن التبت ليست إلا مقاطعة صينية»، فهل كان يقصد أيضا أن على أوربا، أن تتذكر أن الصين هي الآن أول شريك تجاري لها؟؟ وأكثر من ذلك أن يفاجئنا الرئيس الأمريكي جورج بوش بـ«دبلوماسية هادئة» لم نعهدها منه من قبل وهو «يأسف» للعنف الذي حصل في التبت، لكنه يصّر على حضور احتفالات الألعاب الاولمبية، لأن الرياضة ـ كما يقول ـ لا علاقة لها بالسياسة، فهل كان الرئيس الأمريكي يفكر فعلا في الرياضة، أم انه خاف أن تسحب الصين ودائعها من البنوك الأمريكية، فتحدث الكارثة.. رباه كم أصبح ثقيلا نفاق هؤلاء..

[email protected]