لبنان.. الأزمة المستقرة نحو إصلاح جذري للنظام السياسي

TT

تجسد الأزمة اللبنانية حالة جيدة للأزمة المستقرة، فمنذ استقلال لبنان والمسرح السياسي اللبناني يشهد دوامة من الأزمات السياسية المتتالية، والأزمة السياسية الحالية لا تختلف عن سابقاتها من الأزمات السياسية، فقد جاءت لتبقى طالما بقي النظام السياسي اللبناني في صيغته الحالية. لقد أصبح لبنان مصنعاً للأزمات السياسية ولا يمكن الحديث عن لبنان دون الحديث عن أزمة سياسية ماضية، أو حاضرة، أو لاحقة، وفي كل أزمة تبحث الأسباب وتقدم الحلول وتفتح المنافذ السياسية للخروج من الأزمة، ثم تظهر أزمة جديدة وبشكل جديد وعناصر جديدة.

حينما تم التوصل في الطائف عام 1989 إلى (وثيقة الوفاق الوطني) تفاءل كثير من المهتمين بالشأن اللبناني بأن هذا الاتفاق قد يؤسس لمرحلة جديدة في الشأن اللبناني، خصوصاً وان المبادئ العامة للاتفاق جذابة وتعطي تفاؤلاً لكل محب للبنان وأهله، كما أن ما ورد في الاتفاق من إصلاحات سياسية تشد اهتمام الباحث والمراقب للشأن اللبناني، خصوصاً حينما تتحدث الإصلاحات عن وضع (قانون انتخابات خارج القيد الطائفي) وانتخاب مجلس نواب (على أساس وطني لا طائفي)، لكن هناك قلة من المهتمين بالشأن اللبناني آنذاك لم يشاركوا في التفاؤل باللقاء وما قدمه من شعارات والسبب أنهم كانوا يدركون ان لقاء أطراف الأزمة اللبنانية في الطائف لم يأت من قناعة القيادات والنخب اللبنانية بقيم السلم الأهلي أو رغبة جادة في وضع نظام سياسي لا طائفي بقدر ما جاء نتيجة لحالة توازن الضعف الذي اتسمت به المعادلة السياسية اللبنانية، حيث ان كل فريق شعر أنه قد أنهك واستنزفت قواه ويفتقر للقوة التي تحقق له التفوق النسبي على القوى الأخرى، لذا وجدت أطراف الأزمة اللبنانية في اتفاق الطائف مخرجا مرحليا من الأزمة وتعاملا مع فن الممكن مع معاودة الحسابات فيما بعد عند ظهور مستجدات محلية أو اقليمية أو دولية تخدم مصلحة أحد الأطراف وتسمح له بالتنصل من الاتفاق ثم السعي لتغيير الواقع المحلي لصالحه، ولهذا السبب لم يحقق اتفاق الطائف غاياته المنشودة، لأن النوايا الحقيقية كانت غير موجودة لدى الأطراف المشاركة أو لأن الأزمة اللبنانية أعمق من أن تعالج بمؤتمرات طارئة.

ويجتمع هذه الأيام أطراف الأزمة اللبنانية في الدوحة على أمل الخروج من الأزمة الجديدة وآمل أن لا نبالغ في رفع سقف توقعاتنا السياسية لهذا الاجتماع، فهو مجرد وقفة في مسار الأزمة ومرحلة لالتقاط النفس خصوصا وأن الأزمة اللبنانية اصبحت أكثر تعقيدا من ذي قبل نظراً لدخول أطراف جديدة أخرى في مسارها.

إن مشكلة لبنان الحقيقية تكمن في طبيعة نظامه السياسي وما يفرزه من أزمات سياسية متتالية وما يجسده من سمات طائفية تجاوزها الزمن. صحيح ان لبنان بلد ديمقراطي فيه حرية اعلام، وأحزاب سياسية، وتداول نسبي للسلطة وغير ذلك من سمات الديمقراطية، لكن ديمقراطية لبنان ديمقراطية توافقية وهذا النوع من الديمقراطية يوجد مرحليا في المجتمعات المتعددة مثل لبنان، والديمقراطية التوافقية تحكمها أربعة عناصر، وهذه العناصر: حكومة ائتلاف أو تحالف واسع، ومبدأ التمثيل النسبي في الوزارات والمؤسسات الحكومية، وحق الفيتو المتبادل (للأكثرية والأقلية) والإدارة الذاتية للشؤون الخاصة لكل جماعة. بيد ان هذا النوع من الديمقراطية يعمل فقط في المرحلة الانتقالية للنظام السياسي، ولا يمكن الاعتماد عليه لتحقيق استقرار سياسي بعيد المدى يعمل صمام أمان للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحقيق السلم الأهلي.

يرى (آرنت ليبهارت) ان الديمقراطية التوافقية (لم تكن إلا مرحلة عابرة في تطور البلدان الأوروبية التي مرت بها)، وهذا يعني ان الخيارات المتاحة امام لبنان لتحقيق الاستقرار السياسي هو عبور هذه المرحلة الانتقالية أي العبور من مرحلة الديمقراطية التوافقية الى مرحلة ديمقراطية الاغلبية.

لقد اصبحت ديمقراطية لبنان التوافقية معول هدم لاستقراره السياسي ولانجازاته التنموية، فما يحققه لبنان من انجازات في المجال الاقتصادي والاجتماعي تدمره معاول نظامه السياسي الطائفي، ولقد أكد الكثير والكثير من علماء السياسة ومن المهتمين بالشأن السياسي على أهمية التوازن في نسق التنمية بين المسارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وأن أي تخلف في أي مسار ستكون له عواقب وخيمة على الاستقرار السياسي والتنمية الوطنية.

ان ما هو مطلوب اليوم في لبنان هو تقوية القيم والثقافة الوطنية ـ لا تقوية قيم وثقافة الطوائف ـ وتعزيز مفهوم احساس الجماعة، هذا الاحساس الذي عرفه (كارل ديوتش) بأنه (الاعتقاد لدى الاطراف في اقليم معين انهم بلغوا من التقارب والتفاهم ما يمكنهم من حل مشاكلهم بالوسائل السلمية وذلك من خلال القوانين والمؤسسات القائمة وبدون اللجوء الى العنف) ومثل هذا التطور والنقلة النوعية في المسرح السياسي اللبناني يتطلب تفعيل آليات التنشئة السياسية في المجتمع اللبناني (الرسمي اللارسمي) بحيث تعمل التنشئة السياسية للبنان لا لطوائفه.

آمل ان تدرك القيادات والنخب اللبنانية ان ما سوف تحققه من فوائد وعوائد سياسية من خلال تعزيزها للقيم والثقافة الوطنية وتطوير احساس الجماعة في لبنان أكثر مما سوف تخسره نتيجة لدفع مستحقات التطور السياسي، فنحن نلحظ في لبنان أن قوى سياسية تظهر وتقوى وقوى سياسية أخرى تضعف وتختفي وكل طائفة دينية او سياسية في لبنان سيأتي دورها في دفع الحساب ومن يكسب اليوم قد يخسر غدا.

ان القيادات والنخب اللبنانية ـ في مختلف توجهاتها الدينية والسياسية ـ تهرب من دفع مستحقات التنمية السياسية حيث ان هذه المستحقات تتطلب بعض التنازلات من القيادات والنخب، ولقد اثبت مسار التاريخ ان البناء المؤسسي القائم على ديمقراطية الاغلبية هو صمام الامان لبقاء وفاعلية هذه القيادات والنخب وحفظ حقوقها السياسية ومستقبلها السياسي، ان ما تجمع عليه القيادات اللبنانية في الوقت الحاضر (سواء من في الحكم او في المعارضة) هو بقاء النظام السياسي القائم ـ مع ترميمه من حين لآخر ـ لأنه يحفظ لها دورها النخبوي في المجتمع اللبناني حتى وان كان هذا الدور يتحقق على حساب استقرار لبنان وهم في كل يوم يرددون الرغبة في اصلاح النظام السياسي لكنهم يريدون الاصلاح الشكلي الذي لا يمس جذور الأزمة اللبنانية ولا يحقق الاستقرار السياسي.

ليكن رئيس لبنان ورئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب من يكون: مسيحيا او مسلما، سنيا او شيعيا، المهم ان يكون لبنانيا يحظى بدعم اغلبية الشعب اللبناني، فلا يمكن ان يعيش لبنان والى الأبد في تناقض فاضح بين ما يحققه من تقدم اقتصادي واجتماعي وما يعيشه من تخلف في المجال السياسي. انها دعوة من محب للبنان وأهله، الى قادة لبنان ونخبه وصناع قراره.