العراق.. للتَزوَّير صَوْلَة!

TT

بعد إباحة السلاح، واغتصاب أملاك الدولة، يأتي التَزوَّير ثالثة أثافي الخراب. كان يحسب لهذه الخطيئة ألف حساب، في امتحان مدرسة أو تلاعب بوثيقة، وورقة نقدٍ. وبعد الحروب والكوارث لم يعد التَزوَّير شذوذاً، لدى السلطة ومعارضيها على حد سواء، وقد يُعذر الأخيرون فيه للخلاص من أحكام إعدام، أو مداراة أحوال! لكن، ما عذرهم في حَمل ما زيفوا، بعد سقوط الأعذار، لنيل وظائف بل مراكز لها خطورتها في الدولة!

حقاً ترك الحصار (1990ـ2003)، بعد القسوة والحرب، العراق تراباً. كانت لعبة كبيرة، ضخمت السلطة وضاءَلت البلاد! كيف تكون هناك معرفة بلا قلم الرصاص، المصادر من عرض البحر، بذريعة أنه مادة تدخل في تصنيع أسلحة الدمار الشامل! ناهيك من الحاسوب وأجهزة الاتصال، المُحرمة أساساً من قبل الدولة نفسها. لذا تنحني الهامات إعجاباً بمنْ ظلوا ينتجون ما يُعجبا، ولم يتأثروا بلوثة طائفية أو تعصب، ومن بينهم شباب ولدوا في أوار الحروب ونشأوا في غبرة الحصار! بينما عاد منفيون يحملون أوبئةً صُدم فيهم الرابضون تحت الشدائد!

وكيف تكون الشدة! ورئيس الجمهورية، الذي بيده المصائر، يقف في قفص الاتهام مشككاً بالوثائق المقدمة ضده، بأنها مزوَّرة، وأن مثلها يُباع بسوق مُرَيدْي بأطراف مدينة الثورة! قالها! وكأن الأمر لا يعنيه عندما كان رئيساً! ومن عنفوان التزوَّير، ما بعد صدام، أن تُزوَّر الرسائل باسم آية الله علي السيستاني، لتعيين الآلاف في دوائر الدولة. وبأثرها حرر مكتبه رسالة إلى الحكومة طالباً إلغاء تلك التعيينات: «علمنا مؤخراً أن بعض ضعاف النفوس والمغرضين قاموا بتوجيه طلبات باسم سماحة السيد السيستاني ـ دام ظله ـ وبعض وكلائه المعروفين في المحافظات إلى عدد من الوزارات والمؤسسات الحكومية بشأن تعيين آلاف الأشخاص على ملاك الجيش وأجهزة حماية المنشآت وغير ذلك، وقد حصلوا ما سعوا إليه... » (موقع مكتب السيستاني).

أشارت الرسالة إلى الجيش وقوى الأمن! كيف لا! وأبعد من التعيين، وهو مثال من مئات: طلب مسؤول سطر على كتفيه تيجان وسيوف، من موظف بسفارة عراقية أن تزوَّر له (فواتير) بأربعين ألف جنيه استرليني، لكن، بقية ضمائر رفضت طلبه! أقول: كيف تُصدق تصريحات صاحبنا، واعداً بالقضاء على الإرهاب! ومثلها كيف يُثق بمَنْ يحمل سلاح الدولة بورقة مزوَّرة!

أي درك وصله العراق! ورئيسه السابق يعلم بتداول أختام دولته بسوق شعبي، وينتظر حتى الدخول في قفص الاتهام! وأن خاتم مرجع ديني يُدخل الآلاف إلى الجيش والشرطة! ومن دون إرادة الرجل، الذي فضحت رسالة مكتبه التزوَّير. إلا أن الحالة تفصح عن أَسر دوائر الدولة بفكرة ولاية الفقيه، تلك التي ترفض قولاً وتُمارس فعلاً، لعشرات الفقهاء لا فقيه واحد! أي الدوائر لم تتسلم قوائم تعيينات، بأختام حقيقية وشهادات مزوَّرة، من عمائم المناطق! اسألوا دوائر التعليم قبل غيرها! إنها «بلاغة التزوَّير»، وهو عنوان خط تحته الأديب البصري لؤي حمزة، وما لا يُنشر بعد، ما حوى التراث من هذا الفن. أما الحاضر فلا يخوض فيه حتى يأمن من رصاصة هادفة أو طائشة!

دخل التَزوَّير في مشارب الدولة كافة، حتى غدت العجائب ليست عجائب! برلمانيون يتهافتون على شهادات، وبلبنان وسوريا والدانمارك وغيرها جامعات لايُعرف سوى رئيسها، بدأ موسمها مع العراق في تجارة الشهادات. شهادات حوزات دينية، يتخرج أصحابها في شؤون الفقه، اعتمدت في تعيين مستشارين ووكلاء وزراء! إنها تتمة ما مُسخ وخلفت تلك الأيام، وكم من الزمن والثروات والجهود سيكلف العلاج! أليس من قُدرات أرض العراق، بلا مزوَّرين، أن تصبح بما حوى بطنها وما حمل ظهرها: «آمنَةً مطمئَّةً»!

ومن قبل، للتزوَّير ببغداد طرائف! ويومها أضحكت أهل زمانها ولم تُبكهم! حيث لا تهريب أموال ونفوط، ولا استيراد أسلحة عاطلة، وأدوية فاسدة! كانت مجرد تلاعب بالخطوط، وسد عازة وزنها خفيف. نقل التنُوخي (ت 384هـ) عن ابن عياش القاضي، قال: «رأيت صديقاً لي على بعض زواريق الجسر ببغداد، جالساً في يوم ريح شديد، وهو يكتب، فقلت: ويحك في مثل هذا الموضع، ومثل هذا الوقت؟ فقال: أُريد أن أزوَّر على رجل مرتعش، ويدي لا تساعدني، فتعمدت الجلوس ها هنا لتحَّرك الزورق بالموج في هذه الريح فيُجيء خطي مرتعشاً، فيشبه خطه» (نشوار المحاضرة). هذا وأخبار الأحدب المزوَّر(370هـ) مشهورة، «يكتب على خط كل أحد»، وطالما استخدمت السلطة خطه لأغراضها (المختصر في أخبار البشر). عموماً، لا بد للتزوَّير من صولة ضمائر، مثلما هي صولة الفرسان مع السلاح، واسترداد منهوبات الدولة من العقارات! فالزمن أَزفَّ والكارثة تعاظمت!

[email protected]