بنت الحانوتي

TT

في سنة من السنوات في (فلورنسا)، استأجرت مع زميل لي شقة صغيرة في الطابق الأول بعمارة قديمة، يقال إن عمرها يزيد عن 700عام، وكنا نصعد إليها بدرج حجري تآكل من كثرة الدوس وتعاقب أقدام الأجيال عليه.

واكتشفنا وقت تساقط الأمطار، أن هناك رشحاً بالحوائط، كما أن النوافذ غير محكمة، فاتصلنا تليفونياً بصاحب الشقة، لنعلمه لكي يحل لنا هذه المشكلة، فقال: من الأفضل أن تأتوا لي في مكتبي لنتفاهم. أعطانا العنوان، وركبنا تاكسي وذهبنا، وإذا بنا نتفاجأ أن مكتب ذلك الرجل ما هو إلاّ ورشة صغيرة لصناعة (توابيت الموتى). الواقع إنني انفجعت وتشاءمت وأردت أن (أهج) وأنكس على أعقابي، غير أن زميلي تشبث بي، فانصعت مرغماً، وإذا بالرجل يشاهدنا في طرف المكان ويشير لنا بيده أن نتقدم إليه، وأخذنا نتخطى ونقفز فوق التوابيت الخشبية والحجرية إلى أن وصلنا إليه. والواقع أنه رحب بنا وابتسم بوجهينا ابتسامة (عزرائيلية)، وسحب لنا مقعدين لنجلس أمامه، ثم سألنا ماذا نريد أن نشرب، اعتذرنا له، غير أنه أصر وأخذ ينادي: (غراتسيا، غراتسيا)، وإذا برأس فتاة شقراء يرتفع من داخل تابوت، لا أكذب عليكم إنني عندما لمحتها اهتززت، أولا: من شدة الرعب، وثانياً: من شدة جمالها، إلى درجة أنني قلت بصوت مرتفع لا شعوريا: سبحان من يخرج الحي من الميت.

فالتفت الرجل إلى زميلي يطلب منه أن يشرح له ما تلفظت به. فقال له: أبداً، إنه معجب بإتقانك لصناعة التوابيت.

وما صدق على الله أن زميلي قد امتدح صنعته، حتى أخذ يضحك، ويقول لنا إنه على أتم الاستعداد أن يدفع لنا (كوميشن) ـ أي عمولة ـ على أي (ميت) نعرفه ويأتي أهله لشراء تابوت له من محله. قلنا له: إن ديننا وملتنا بالذات، لا تستخدم التوابيت، لا لجنازات موتاها، ولا في دفنهم. تعجب من ذلك كثيراً، وأخذ يهز رأسه و(يعرفط) وجهه غير مصدق.

وفي هذه الأثناء كانت (السنيوريتا غراتسيا) التي تعمل وتساعد والدها في هذه المهنة، قد انتهت من خياطة وفرد قماش ابيض من الحرير داخل التابوت وخرجت منه وأتت لنا وهي تتقافز كالمهرة (البطرانة)، وسألت والدها ماذا يريد عندما ناداها. طلب منها أن تحضر لنا قهوة (اكسبرسو)، وما هي إلاّ دقائق، وإذا هي تحضرها مع ابتسامة (ملائكية). اعتذرت أنا عن شرب القهوة بحجة أنها تسبب لي حموضة بالمعدة، والواقع إنني كنت أكذب، فلقد صابتني (فوبيا) وحساسية من أي شيء يأتي من هؤلاء الذين يتاجرون بالموتى.

شرحنا له موضوعنا الذي أتينا من أجله فوعدنا خيراً، و(تلقف) زميلي قائلا له: أرجو أن تأتي ابنتك (غراتسيا) للشقة لتشاهد وتتأكد مما ذكرناه لك على الطبيعة، وفي نفس الوقت نريد منها أن تتذوق الشاهي على الطريقة العربية.

ضحك الوالد، ووافقت البنت، وودعناهما، وعندما مدت هي يدها لمصافحتي اعتذرت بحجة أنني أرفض أن أصافح أي أنثى ليست من (محارمي) ـ طبعاً أنتم تعرفون (الحساسية)، والخوف من عدوى الموت التي تلبسني ـ. وعندما خرجت، قلت لزميلي غاضباً، كيف تتجرأ وتدعو (بنت الحانوتي) إلى شقتنا؟! كيف لم تسألني وتأخذ رأيي؟!، قال: هذا اللي حصل، قلت له: إذن هذا آخر ما بيني وبينك، وآخر ما بيني وبين تلك الشقة والمقبرة.

وفعلا ما أن وصلت حتى لممت (عزالي)، وذهبت إلى أقرب (بنسيون)، ولم أنم في تلك الليلة من كثر (التوابيت) التي تقاطرت على رأسي.. ولكن أرجوكم لا تسألوني ماذا حصل بعد ذلك (لبنت الحانوتي)، اسألوا زميلي.

[email protected]