المراثي والمراجع

TT

تمتلئ الصحف العربية بإعلانات النعي والتعزية، وتخلو، إلا قليلا، من زوايا أو أقسام «الرثاء» أو «التأبين» التي هي تقليد أساسي في الصحافة البريطانية منذ قرنين على الأقل. وتعتبر صفحات التأبين أو الوفيات في «التايمس» القسم الأهم فيها، إلى جانب «رسائل إلى المحرر» والكلمات المتقاطعة، التي تعتبر امتحاناً لمدى متابعة قرائها للأحداث والشؤون الثقافية. ولا تزال «التايمس» تنشر المراثي من دون توقيع، مثل المقال الافتتاحي، لكي لا يقع الكاتب تحت ضغط المساءلة أو إغراء الإطراء. لكن «الاندبندنت» غيَّرت هذا التقليد وصار كل رثاء يحمل اسم مؤلفه.

وجرى القول لزمن في بريطانيا إن الذي لم يظهر رثاؤه في «التايمس» لا يعتبر ميتاً. واشتهر عن الثري غولبنكيان الذي عرف باسم «5 في المئة» أنه عرض جزءاً من ثروته لمن يستطيع أن يطلعه على ما ستكتب «التايمس» في رثائه. وأخفق. وفيما تحافظ الأدبيات البريطانية على لياقات الموت وحياء الغياب تختلف الصحافة الأميركية بأسلوبها الأقل كياسة. وكان محرر الوفيات في «النيويورك تايمس» الدن ويتمان يجري «مقابلات» مع راحلي المستقبل حول ما يمكن أن يكتب عنهم حتى لقب «السيد النبأ السيئ». ومن الذين بحث معهم في صيغة رثائهم هاري ترومان وانطوني إيدن والكاتب غراهام غرين. على أن ويتمان تذرع دائماً بأن الرثاء هو حديث الحياة لا الموت. وهو سيرة وسرد لأعمال وميزات الغائبين وليس إعلاناً لوفاتهم.

عندما توفي الشيخ عيسى بن سلمان، أمير البحرين، كنت أعتبر أنني من الذين عرفوه لفترة طويلة. وكتبت في وفاته معدداً سماته الأخلاقية ووداعته وتواضعه الذي كان يأسر به عارفيه وأعوانه وشعبه. وقرأت بعض ما كتبه زملاء آخرون، فبدونا متشابهين إلا من حيث تاريخ التعرف إلى الرجل. وبعد أيام صدر تأبين «التايمس» وكان عبارة عن تأريخ سياسي دقيق وحافل لحاكم بدا للعرب وكأنه لا يتعاطى السياسة على الإطلاق وأنه عاش من دون هموم سياسية كبرى. لكن من «التايمس» عرفنا ما هي دقة المرحلة الإقليمية والدولية والعلاقات الخارجية التي أدارها الرجل خلال عهده.

وتنشر «التايمس» كل بضع سنين مختارات معينة مما نشر تحت العنوان نفسه. وكانت «الغارديان» أول من خرق التقليد في الثمانينات عندما بدأت تواقيع المؤلفين تظهر على المراثي. ولا تزال «التايمس» وحدها تجهِّل الكاتب. ولا أدري أي الطريقتين أفضل. لكنني أتمتع بأسلوب «الغارديان» و«الاندبندنت» وأرى في «التايمس» مرجعاً معلوماتياً.