احذر من الإيدز ومن التفكير

TT

بإضافة القمع الفكري إلى انعدام الاستقرار، وجد المواطن العربي أن خير وسيلة لضمان السلامة هي السكوت، بل وأكثر من ذلك وأضبط عدم التفكير مطلقا. فحتى تأييد النظام القائم ينطوي على مخاطر. فسرعان ما يسقط النظام فيحاسبونك على تأييدك له. وهو ما وقع به كثير من الناس، كما اكتشف مؤخرا الكثيرون ممن أيدوا صدام حسين وحزب البعث.

سجل الظرفاء مقالب كثيرة مما جرى في هذا السياق. قالوا في مصر إن أحد الضباط زج به في السجن الحربي بعد النكسة وتنحية شمس بدران من منصبه وزيرا للحربية. فتطوع ضابط آخر سجين إلى تعريفه ببقية السجناء في الزنزانة إياها. أشار إلى واحد منهم وقال:

ـ ده مسجون لأنه أيد شمس بدران.

ـ وده؟

ـ ده مسجون لأنه وقف ضد شمس بدران.

ـ ومين ده؟

ـ ده شمس بدران.

وعلى الطرف الآخر من المعترك العربي، جرت مفارقة مشابهة في العراق عندما زجوا بالكثيرين في عهد عبد الكريم قاسم ممن لم يتعظوا بحكمة السكوت والسلامة ووقعوا بنفس الخطأ عندما تصوروا أن كل شيء سيدوم. التقى محمد فاضل الجمالي، رئيس الوزراء السابق، بعبد السلام عارف، رئيس الجمهورية اللاحق، عندما وجدا نفسيهما في نفس المعتقل.

سأل عبد السلام عارف الدكتور الجمالي: «شنو التهمة ضدك؟» فأجابه قائلا: «لأنني عارضت جمال عبد الناصر.. وانت شنو جريمتك؟» أجابه عبد السلام عارف: «لأنني أيدت جمال عبد الناصر».

وفي السودان، زجوا في السجن بأحد الأساتذة في عهد جعفر النميري، فذهب عميد الجامعة لسيادة الرئيس يتوسط لزميله. قال له إنه يعرف ذلك الأستاذ جيدا وهو من أخلص الناس للنظام ورآه يوما وهو يدافع عنه بحرارة أمام شلة من المعارضين الخونة. فأجابه جعفر النميري: «وهو قاعد مع شلة من الخونة يعمل إيه؟»

لا أدري ماذا حل بذلك الأستاذ وأين هو الآن بعد سلسلة الانقلابات والتحولات التي اجتاحت السودان منذ ذلك التاريخ. ربما تعلم الحكمة الأولى الآن في السكوت السلامة، ولم يعد يدافع عن أحد أو يؤيد أحدا.

وفي هذا الجو من القمع المتواصل، توالت النكات عن الفم وغلق الفم. لاحظ أحد البروفسورية الإنجليز أنهم في كليات طب الأسنان في بعض الدول العربية يعلمون التلاميذ تشريح الأنف. فاستغرب من ذلك وسألهم. فقالوا له إنهم في بعض البلاد العربية يخلعون الأسنان من الأنف نظرا لأنه لا يجرؤ أحد على فتح فمه.

وهو ما كان الشاعر الرصافي قد سبقنا إلى معالجته في قصيدته الشهيرة:

يــــــا قـــــوم لا تتكلمــــوا

إن الكلام محرم

نامــــــــوا ولا تستيقظـــــوا

ما فاز إلا النوم