الدوحة: هدنة مؤقتة أم أفق جديد ؟

TT

فهم اللبنانيون القدامى، الذين شهدوا مفاوضات جنيف ولوزان في الثمانينات من القرن الماضي، أنه من الطبيعي أن تكون هناك هبّة ساخنة وهبّة باردة في المحادثات بقطر. لكنّ الواقع أن الأمر مع «حزب الله» مختلف تماما، وإذا كان لا بد من القياس على حالات ماضية، فلا أجد أقرب لما تشهده بيروت ويشهده لبنان من محاولات «حزب البعث» الانفراد بالسلطة في سورية أواسط الستينات. ويعلم الجميع أن حافظ الأسد (ومعه البعثيون)، إنما حكموا سورية بالبطش والإرعاب في السبعينات والثمانينات، بحجة توحيد الجبهة الداخلية من أجل مواجهة العدو الإسرائيلي وتحرير الجولان، وباقي الأراضي العربية المحتلة في لبنان وفلسطين!. ولذا فقد كان كلّ معارض أو محتج بسبب انتهاك حريته أو كرامته أو تهديد حياته، يُتهم بأنه متخاذل أو عميل أو مهدِّد لأمن الوطن وجبهته الصامدة. وعندما مضى النظام السوري في حربه على المخيمات الفلسطينية بلبنان بعد إسرائيل، صارت تُهمة العرفاتية تُضاهي تهمة العمالة لإسرائيل أو للموساد، وفي مواجهة السوريين واللبنانيين والفلسطينيين الذين وقعوا جميعا تحت قبضته.

وكانت الحجة في وجه عرفات والمعتبرين من أنصاره أنهم يميلون أو يعملون للصلح مع إسرائيل، أو يتآمرون مع العدو الإسرائيلي ضد نظام الحكم في سورية الذي يواجه إسرائيل!. وبالطبع ما أطلق نظام الحكم في سورية طلقة واحدة ضد إسرائيل بعد حرب عام 1973، وحتى اليوم!. ومع ذلك، فلا يزالون ـ وبدون خجل ـ يعتبرون «نيتهم» في مواجهة إسرائيل الغطاء الرئيسي للشرعية ضمن النظام، وتجاه العرب. وبعد حرب تموز عام 2006، عاد الرئيس بشار الأسد علانية إلى التكتيك نفسه عندما اعتبر كل خصومه في لبنان والعالم العربي «مُنتجاً» إسرائيلياً وأنصاف رجال. وإذا كان والده يستطيع الاحتجاج بأنه قاتل إسرائيل مرة أو مرتين، فإنه لا حُجة لنظام بشار في دعواه مواجهة إسرائيل غير دعمه لـ«حزب الله» في إغاراته على إسرائيل لتحرير ما احتلته في لبنان!.

منذ حرب عام 2006، وبعدها مباشرة، ارتدّ «حزب الله» نحو الداخل، وبدأت محاولاته تتخذ اتجاهين متناقضين في الظاهر: مرة يريد الانعزال والتفرد بالمناطق والمربعات الأمنية، ومرة يبحث عن تحالفات مع أطراف أخرى للصَولة على ما تبقى من سلطة الدولة اللبنانية، ومساحات المواطنة والقانون الباقية. وكان كل احتجاج على التعديات يواجه باتهام الدولة والخصوم السياسيين بأنهم يريدون المساس بأمن المقاومة، أو بأنهم عملاء لإسرائيل والولايات المتحدة. وفي هذا الاتجاه وقع تبرير اجتياح بيروت يوم 7/5/2008، والمسارعة إلى الجبل الدرزي بالقصف المدفعي بعد ثلاثة أيام.

فالذين يريد حسن نصر الله مواجهتهم ـ وعلى رأسهم وليد جنبلاط ـ إنما هم «عملاء الداخل»، تماما مثلما كان الرئيس حافظ الأسد يبرر الاستيلاء على السلطة، وقمع المعارضين. إن المشكلة هنا أن حسن نصر الله ليس رأس الدولة، ولا رأس دولةٍ أخرى وقع عليها عدوان، بل هو زعيم تنظيم مسلح من طائفة واحدة، قال من قبل عشرات المرات إنه لن يستخدم سلاحه في الداخل. والواقع أن هذا السلوك من جانبه لا يحدث لأول مرة، ومع ذلك فهناك هذه المرة مستجدات وفواقع: من المستجدات أن الاجتياح كان للعاصمة اللبنانية، وليس لقرية في جنوب لبنان «يحتاج إليها أمن المقاومة». ومن المستجدات أن الغزو ومحاولات الإرعاب شملت كل سكان المدينة، وليس خصومه السياسيين فقط، كأنما ليعوّد الجميع على السيطرة والسطوة، ويحول دون تمرّدهم. ومن المستجدات أنه حصل على إجماع ديني من قادة الطائفة الشيعية الدينيين، ومن المجلس الشيعي الإسلامي الأعلى، وما وفّر هو ولا الزعماء الدينيون الزعامة الدينية والسياسية السنية من تُهم العمالة والعمل للأجنبي والإسرائيلي. ومن المستجدات ما حاول حسن نصر الله، وقادة المعارضة الآخرون بالدوحة، الحصول عليه ـ قبل إبرام الاتفاق / الهدنة ـ من مكاسب سياسية بعد استخدام القوة في شوارع بيروت وقرى الجبل. هي «مطالب ومكاسب» ما استطاعوا الحصول عليها بالإضرابات والاعتصامات والخروج من الحكومة، وإقفال مجلس النواب، ومنع انتخاب رئيس جديد للجمهورية خلال أكثر من عام ونصف. فهم أرادوا «الثلث الضامن» بالحكومة، وإحداث تغيير في دوائر بيروت الانتخابية، وأبوا إعطاء ضمانات بعدم استخدام سلاحهم بالداخل، وقبل ذلك وبعده عدم الموافقة على انتخاب رئيس غير الجنرال عون!. وهكذا فالمطلوب بالدرجة الأولى فرض السيطرة بالتدريج على سائر مؤسسات الدولة الدستورية بشتى الطرق ومنها طريق القوة المسلحة. وقد نسوا في خضم النشوة بالنصر كل الاعتبارات، ومنها انه لا علاقة لكل ذلك بأمن المقاومة، وان كل الضغط موجه ضد الطائفتين السنية والدرزية، وانهم يتلبسون وظائف جديدة تماما من بينها حفظ حقوق وأمن الأقليات وهي وظيفة محببة للنظام السوري في كل عهده البعثي الماجد!

وقد لاحظ سكان بيروت وصيدا وسائر النواحي والقرى التي يختلط فيها الشيعة بالسنة، وبعد حرب تموز بالذات، ان الشبان الشيعة صار لديهم سلاح صغير ومتوسط، وكثرت الاحتكاكات بينهم وبين شباب السنة. وعندما كنا نشكو كانوا يقولون انهم انما يتسلحون استعدادا للدفاع عن قراهم في مواجهة العدوان الاسرائيلي الوشيك. لكن هذا السلاح كله استخدم في الاسبوعين الاخيرين، وفي بيروت وصيدا والجنوب وقرى البقاع للتخويف والإرعاب وضد الجيران الذين نشأوا معهم، وتعلموا معهم وما عرفوا منهم من قبل عداء ولا عدوانا. وليس هذا فقط، بل ان مثقفين شيعة كثيرين، ليسوا موالين للحزب والحركة، تعرضوا ايضا للاعتداء والتهجير في بيروت وخارجها. ومعروف ما جرى على مفتي صور الشيعي السيد علي الامين، وليس من حزب الله وحركة أمل فقط، بل من جانب المجلس الاسلامي الشيعي مجتمعا ايضا.

قبل ثلاثة أيام قال متحدث باسم وزارة الخارجية الايرانية إنهم يدعمون المبادرة العربية لحل الأزمة اللبنانية. لكن الطريف ان الحزب وفي الليلة نفسها وبقطر رفض بعض ما كان قد وافق عليه، وعادت الأمور الى الصفر. وعلى الوقع نفسه عادت التعديات وعاد الظهور المسلح الى بعض شوارع بيروت غير الشيعية السكان. وهاج الجنرال عون حليف الحزب بالدوحة وهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور ان لم تلب كل طلباته، وصدر في اليوم الثاني بيان من «المعارضة» بقطر يؤيد كل مطالب عون، ويؤخر انتخاب الرئيس الى آخر القائمة، وبعد ان تكون المطالب غير المعقولة قد تحققت! ولذا لم يكن غريبا ان يقول بيان صادر عن مجلس الوزراء السعودي ان السلاح الذي تجمع بلبنان واستخدم ضد المدنيين ببيروت، هو سلاح يهدد الاستقرار والأمن القومي العربي.

لقد ارتهن حزب الله بيروت بالسلاح، وهو يريد تحقيق مكاسب مزدوجة.. داخلية، تتجه لتغيير النظام لصالح السيطرة بالقوة. وخارجية، تستخدمها ايران في تجاذباتها مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بشأن الملف النووي، والارتباكات بالعراق بعد ضرب مقتدى الصدر وتنظيمه.

ولا شك ان اللبنانيين خائفون على أمنهم وحياتهم وحرياتهم وعيشهم. لكنهم يعلمون ايضا ان التنازلات للمسلحين والسلاح والتي قد تفيد في التقاط الانفاس، ستكون لها آثار مدمرة على نظامهم وعيشهم ومستقبلهم. لذا لا بد من الصمود وفي الدوحة وبيروت، أو لا يبقى لنا غدا غير البكاء على الاطلال.

هل تقدم ايران صراعاتها الحقيقية والوهمية بالمنطقة، على العلاقات بالسعودية ومصر وسائر العرب والمسلمين؟!

وحزب الله، هل يقدم علاقاته وتحالفاته في الساحة المحلية بأطراف هامشية، على العلاقات بالسنة وبالعرب والمسلمين؟!

الحل الذي جرى في الدوحة يمكن أن يقتصر على هدنة مؤقتة، ويمكن أن يفتح الأفق على سلام طويل، ليس بين السنة والشيعة فقط، بل وبين لبنان وسورية، والعرب وإيران. والأمر متوقف في الحقيقة على كفاءة اللبنانيين، وعلى نوايا إيران وحزب الله وسورية.

* كاتب لبناني