الانتخابات الكويتية بعيون عربية

TT

يمكن تلخيص نتائج الانتخابات البرلمانية التي جرت مؤخرا في الكويت في ثلاثة معطيات أساسية هي: الفوز الكاسح للقوى السلفية والقبلية، وتراجع الاتجاه الليبرالي، وغياب المرأة عن المجلس النيابي. فالتيار السلفي أصبح يمثل الكتلة الأهم في البرلمان الجديد بنوابه 12، في حين انتزع المرشحون القبليون 24 مقعدا، وخسر الليبراليون احد مقاعدهم الثمانية ولم يعودوا الصوت المسموع المشاكس في الهيئة التشريعية التي طالما ناضلوا من اجلها.

ولا بد هنا من تسجيل حقيقة راسخة مفادها ان التجربة الديمقراطية الكويتية أثبتت قدرتها على الاستمرار على الرغم من المصاعب الجمة التي واجهتها في الأعوام الأخيرة مما اقتضى حل البرلمان وتعجيل الانتخابات. فالاقتراع جرى في ظروف طبيعية، وخلا من شوائب التزوير والتلاعب التي لا تكاد تخلو منها انتخابات في عالمنا العربي. ويحسب للحكومة الكويتية هذا الجهد المحمود، بيد ان المفارقة البادية للعيان هنا هي ان العملية الانتخابية التعددية تفضي في الكويت (وبالتأكيد في اغلب البلدان العربية) الى فسح المجال امام القوى العصبية التقليدية والطائفية للاستئثار بمواقع التمثيل الشعبي على حساب قوى التحديث والإصلاح التي هي الحاضن الفكري والايديولوجي للمطلب الديمقراطي.وتفسر هــذه الظاهرة بعـاملين أساسيين:

أولهما الانفصام القائم بين المنحى الإجرائي في الممارسة الديمقراطية وأرضيتها المعيارية، فالآلية الانتخابية هي مجرد أداة تمثيل تعكس واقع الموازين السياسية، وبدون المضمون الثقافي المؤسس لفكرة التعددية والاختلاف وقيم الحرية والذاتية تكون عائقا موضوعيا بدون التغيير بما تكرسه من معادلة اجتماعية قائمة. وقد عبر عالم الاجتماع الفرنسي المعروف بيار بورديو عن هذا الاتجاه بعبارة «الهياكل التي تعيد إنتاج الواقع بالتماهي معه». فالقيم الشمولية الأبوية والانتماءات الطائفية والعصبية هي النقيض الموضوعي للمرجعية المعيارية للنظم الديمقراطية بما تفضي اليه من تغييب وإقصاء للإرادة الذاتية الفردية الحرة التي هي مدار الاختيار في المنافسات الانتخابية.

ثانيهما: هشاشة وضعف الجسم السياسي المنظم، أي التشكيلات الحزبية التي اما ان تكون غائبة محظورة او محدودة التأثير والفاعلية. ومن هنا ندرك تضخم الأدوار السياسية للجمعيات الأهلية والثقافية والدينية ومنظمات المجتمع المدنــي، من حيث كونها تعوض التشكيلات السياسية في أدوارها التعبوية والتنظيمية الاعتيادية.

نلمس الظاهرتين بوضوح في الحالة الكويتية، حيث برهن المعطى القبلي والطائفي على نجاعته في الفاعلية الانتخابية، كما أثبتت الدعوة السلفية المستندة لأكثر التصورات الجامدة الطهورية قدراتها الاستقطابية التي تفوق تأثير وفاعلية الأفكار التحديثية الليبرالية. ولم يكن بإمكان التنظيمات السياسية التي تأخذ شكل منابر رأي ان تنافس الجمعيات الأهلية والثقافية والدعوية التي هي القوى المتحكمة في الحراك السياسي.

أمام هذا المأزق يميل البعض الى تأجيل الحالة الديمقراطية أو الأخذ بها تدريجيا لتمهيد التحول الناجح من الأحادية الى التعددية، بيد ان هذا المسلك اثبت فشله. فالاستبداد لا ينتج الا الاستبداد، والآلية الديمقراطية تفضي ببعدها الإجرائي نفسه الى توليد مضمونها المعياري ولو بثمن باهظ أحيانا.

بيد ان المسؤولية الكبرى تقع على النظام السياسي الذي يتعين عليه تضمين المشروع التعددي الانتخابي رؤية بنائية تغييرية تخرج الميكانيكا التمثيلية من مستواها التقريري السلبي.

فالتجربة الغربية تثبت ان المجتمعات الأوروبية مرت بحركية الإصلاح الديني ثم عصور التنوير والثورة الصناعية، قبل ان تأخذ بالمسلك الديمقراطي التعددي. وقد اعتبر المفكر المغربي المشهور عبد الله العروي ان المشروع النهضوي العربي مرغم على الانجاز المتزامن لهذه اللحظات التي شكلت محطات متمايزة ومتتالية في تاريخ المجتمعات الغربية.

ولا بد من الإقرار ان الأنظمة السياسية العربية أخذت إجمالا في عقود الاستقلال الأولى بهذا الأفق التحديثي التغييري وان اختارت له قالبا استبداديا حد من شرعيته وفاعليته، الا أنها انتهت تحت وقع الأزمات الاجتماعية والاخفاقات المتتالية الى الاستنجاد بالمعادلة الطائفية والعصبية واستتباع المؤسسة الدينية، مما اضعف هذا الزخم الليبرالي التحديثي الذي تكالبت عليه الدولة والمجموعات الأصولية المتطرفة.

ان هذه الاختلالات هي التي تفسر مصاعب التحول الديمقراطي في العالم العربي، حيث حققت بعض البلدان مكاسب في ديمقراطية التعبير ولا يزال المطلوب هو الاجتياز الناجح نحو ديمقراطية التغيير.