الطريق

TT

إبان الحرب العالمية الثانية كان هناك كولونيل يعمل في القيادة بلندن واسمه (روجرز بيكمان)، وابنه يقاتل في الجبهات الداخلية في أوربا.

ويقول: ذات مساء وبينما كنت في منزلي، وإذا باتصال يأتيني من المستشفى، وصوت ممرضة تقول لي إن ابني الوحيد قد أصيب بالمعركة، وإن هناك طائرة نقلته مع مجموعة من الجرحى، وسنجري له عملية في الحال، فدار بيني وبينها الحوار التالي:

* أرجو أن تسمحوا لي برؤيته.

ـ لن نسمح لك برؤيته، لأن زيارتك سوف تهيجه.

* إذن دعوني أراه من بعيد ولا داعي لإخباره.

ـ لا، إنه سوف يشعر بك، ولكن سندعوك بعد إجراء الجراحة مباشرة.

ويقول الكولونيل: ظللت منتظراً في منزلي بقلق، اذرع الغرف ذهاباً وإياباً، وإذا بجرس التليفون يدق فجأة، يخبرونني أن الجراحة انتهت ويمكن لي أن أحضر.

أسرعت بالخروج، ووجدت الجو يغشاه ضباب ثقيل أغبر، فقلت بيني وبين نفسي: لا بأس أن أسير، فالمستشفى ليس بعيدا وبيني وبينه بضعة منازل.

غير أن الضباب ازداد كثافة فساعد على طمس الرؤية تقريباً، وزاد الطين بلة أن الوقت كان آخر الليل، وأنوار الشوارع في لندن مطفأة بسبب ظروف الحرب.

وأصبحت تائهاً كأنني أسبح في بحر ليس له شطآن، وبينما كنت في هذا الموقف الذي لا أحسد عليه من القلق والبرد والظلام والضياع.. إذا بصوت خطوات بطيئة تتناهى إلى سمعي، فناديت على مصدر الصوت من دون أن تراه عيناي، قائلا: أرجوك ساعدني بالوصول إلى المستشفى (الفلاني)، فابني هناك وحالته خطرة، وأنا التبس عليّ الطريق ولا أعرف كيف أصل إليه؟!

وما هي إلاّ لحظات، وإذا بيد ذلك الشخص تمسك بمعطفي قائلا لي بصوت مرح وواثق: لا عليك، سوف أدلك وأوصلك بنفسي إلى المستشفى، فلا تضطرب ولا تخف، وكل ما عليك هو أن تتبعني خطوة بخطوة، وفعلا أخذ يتقدم وأنا وراءه، وطوال الطريق كان يحذرني مقدماً: انتبه وأنت تنزل من على الرصيف، بعد قليل سوف ندخل في شارع ضيق على اليمين، الآن سوف نتجه لليسار، بعد خمس خطوات سوف ندخل في نفق «فلا تشيل هم» فأنا معك ولن أتركك حتى أوصلك بأمان، ولكن احذر من بعض الحجارة التي قد تتعثر بها.

أخذنا نسير على هذا المنوال المتعرج النازل الطالع مدة نصف ساعة على الأرجح، وبعدها قال لي: سوف نصل إلى بوابة المستشفى بعد خمس وثلاثين خطوة تقريباً، وفعلا لاح لي وسط الظلام شبح المبنى الضخم الداكن، ثم توقف قائلا: ها هو المستشفى يا سيدي، ولكن انتبه و«خليك على مهلك» وأنت تصعد الدرج.

شكرته وما كدت أصعد بتعثر بعض الدرجات إلاّ وتوقفت والتفت إلى الخلف صائحاً به وقائلا له: ولكن ألا تخبرني كيف اهتديت إلى هذا الطريق المعقد وسط هذا الظلام الدامس؟!

أجابني وهو يضحك: إنه شيء هين وبسيط، فأنا أعمى.

[email protected]