بين أوبرا «بوش» وأوبرا «عايدة»

TT

فسيفساء غم وهم ومهانة وإذلال تفرش نفسها على طول وعرض أمتنا، ولم يكن ينقصنا إضافات أوبرا «بوش»، التي فرضت مشاهدها علينا، مطلة من المجلس الصهيوني ـ الكنيست ـ الذي ألقى فيه جورج دابليو بوش، بأعلى طبقات صوته ـ تنور ـ خطابه الموغل في الكذب والجهل، حتى ساحة مدينة شرم الشيخ المصرية حيث كانت تأكيداته لثوابته التي لا تتزحزح قبضتها عن إرهاب العالم وترويعه لمن لا ينصاع لانحيازاته.

أوبرا «بوش» هذه تحيلني إلى أوبرا «آييدا»، عدوة المصريين التي اشتهرت بيننا خطأ باسم أوبرا «عايدة.

لماذا؟ لأنها تحيلني إلى عجزي عن معرفة سر غرام مثقفي مصر بأوبرا «آييدا»، التي تمجد قيم الخيانة والنذالة والخسة، أنظر «الشرق الأوسط» 6/3/2008 ص 19 موضوع العرب وشهوة الأوبرا. دعوني أحكي لكم بكل أمانة وصدق محتوى هذه الأوبرا التي تم تقديمها لأول مرة على خشبة مبنى الأوبرا الخديوية بالقاهرة 24/12/1871. «آييدا» بنت ملك إثيوبيا، لا هي ابنتنا ولا هي جدتنا ولا نعرفها. وحكايتها تبدأ بوقوعها في أسر المصريين الذين كانوا، في تلك المرحلة التاريخية، في حالة عداء وحرب مستمرة مع الإثيوبيين، تأخذها ابنة فرعون مصر «إمنريس» في خدمتها بين عبيدها. يقع الجندي المصري الشاب «راداميس» في غرام «آييدا»، كيف؟ ولماذا؟ وما هو المبرر؟ لا نعرف، وتبادله «آييدا» الحب في الوقت الذي نعرف فيه حب «إمنريس»، ابنة فرعون، له. يقوم الكهنة بتكليف «راداميس» قيادة جيش الدفاع عن الأراضي المصرية، التي تم الاعتداء عليها من قبل الإثيوبيين. تغني له ابنة فرعون المحبة «عد منتصرا». وتعرف «آييدا» أن والدها، ملك إثيوبيا، قادم على رأس الجيش الذي سيواجهه حبيبها «راداميس» فتغلب حبها لبلادها وأبيها، على حبها لـ«راداميس» وتكرر أغنية «عد منتصرا» وفي بالها نصر والدها ملك إثيوبيا، ونصرة بلادها التي تشتاق إليها، ولا لوم عليها. تكتشف ابنة فرعون علاقة الحب بين خادمتها «آييدا» وبين حبيبها «راداميس»، ومثل كل العاشقين تدب الغيرة في قلبها، ولا لوم عليها هي الأخرى، وتناصب غريمتها «آييدا» العداء ولكن ليس لدرجة الإيذاء. حين يعود «راداميس» محققا النصر لمصر يقرر فرعون مصر إكرامه بتزويجه ابنته، لكن «راداميس» قلبه متعلق بـ«آييدا» التي تتعرف على والدها، ملك إثيوبيا، بين الأسرى الذين جلبهم معه «راداميس» حبيبها. يطلب ملك إثيوبيا الأسير من ابنته «آييدا» عدم الإعلان عن حقيقته الملكية ويؤكد لها أن المعركة مع المصريين لم تنته وأن حشودا إثيوبية مستعدة للتحرك، ويحثها على الهرب معه بعد أن تعرف بالتجسس من القائد المصري خط سير القوات المصرية. تخضع «آييدا» لمطلب والدها وتنجح في استدراج حبيبها، إلى فخ الإدلاء بالسر العسكري، ويتم تقديمه للمحاكمة بتهمة الخيانة ـ طبعا! ـ ويحكم عليه الكهنة بالدفن حيا حتى الموت. يعرف «راداميس» أن «آييدا» هربت مع والدها ملك الإثيوبيين ـ نلاحظ منتهى الخسة والنذالة من قائد يفضل غرامه على حب البلاد التي مجدته وحملته الأمانة ـ تتضرع ابنة فرعون إلى «راداميس» ليتزوجها لأنها تحبه وهي كفيلة بإنقاذ حياته، لكنه يؤكد أن الموت عنده أفضل من خيانة «آييدا». ويهبط القائد الخائن الخسيس إلى قبو الموت، وإذا به يجد «آييدا» تنتظره لتموت معه، بعد مقتل أبيها الذي كان ينوي إذا نجح في الهرب إعادة الاعتداء على مصر في معركة جديدة. وتنتهي الأوبرا بلقاء العاشقين مرحبين بالموت معا بينما تكون ابنة فرعون فوق القبر تبكي الحبيب بلا طائل، ونجد النهاية تمجد القائد وتوحده مع ابنة الأعداء «آييدا».

أن يفتقد الموسيقار فردي الإيطالي الحساسية تجاه مشاعر المصريين، ويقدم له هذه الأوبرا فهذا مفهوم، لأن فردي لا تفرق معه إهانة المصريين لصالح أعدائهم، كما أن الخديو لم يفهم الحكاية تماما، كما يبدو، فهو جاهل ومغرم عمياني بالفن الخواجاتي ويخشى أن يفتح فمه فيقال عنه إنه لا يفهم في هذا الفن الراقي، بالإضافة إلى أنه لم يشعر بالانتماء إلى التراث المصري القديم المليء بجو الفراعنة والكهان والمعابد، وربما أنه شعر بأن المسألة كلها فخار يكسر بعضه. ويبقى السؤال:  كيف يهرول البعض في دوائر الثقافة عندنا، الآن، بكل هذا الحماس نحو أوبرا تمجد قيم الخيانة والنذالة والخسة؟

لعل الإجابة المناسبة تكون ذلك الهتاف الذي صرخت به مظاهرة الناس في مدينة دمنهور، الموعودة قريبا بمبنى أوبرا، متسائلين في رفض حاسم: «أوبرا إيه.. أوبرا إيه.. كيلو العدس بعشرة جنيه»!

إنها إجابة معبرة، في كل الأحوال، عن حال أهل مصر، بعيدا عن حضرات المثقفين المهرولين بين أوبرا «بوش» وأوبرا «آييدا».