الوزير الثوري..

TT

لم يكن في مظهرنا ما يثير الانتباه ونحن ندخل قاعة الطعام في احد الفنادق في عاصمة عربية، الا لباسنا الوطني الذي كنا نرتديه انا وزملائي اعضاء الوفد العربي السعودي.

كان ذلك غداة انعقاد مؤتمر وزراء الاعلام العرب، في احد اجتماعاته الماضية. وكان يجلس الى احدى الموائد القريبة منا رجل توحي قسمات وجهه بأنه عربي.. وابن عربي.

لكن نظراته لم تكن عربية...

فما كاد يستقر بنا المقام حتى اخذ يلاحقنا بعيون فيها نظرات من مشاعر السخرية والازدراء.. كانت نظراته كفيلة بأن تدفع بالحليم الى اقصى آماد الاستفزاز.. ولكن الله انزل في قلوبنا السكينة وتجاهلنا الأمر بكل ما قدر لنا ان نملكه من ضبط للنفس..

وأحسسنا، ساعتها، ان الذي أثار هذا الرجل الغريب هو لباسنا الوطني..

وذهبنا في اليوم التالي لحضور الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، واذا بصاحبنا وزير اعلام عربي، لبلد عربي، وضع نفسه في مكان الصدارة من القافلة العربية الثائرة..

وكانت نظراته هذه المرة اقل جرأة ووقاحة. وتصافحنا. ومد يده بكبرياء دفعت الى وجهي بابتسامة مليئة بالسخرية والأسى.

وشرع مجلس وزراء الاعلام في اعماله واستطاع وفدنا ان يأخذ بزمام المبادرة وان يقيم الدليل لذلك الوزير الثوري المتعالي بأن العباءة والعقال ليسا ـ كما يصر ـ رمزا للتخلف والجمود. ونسي ان العقال كان تاجا على رؤوس من صنعوا المفاخر لتاريخنا العربي والاسلامي.

وفي أحد اللقاءات العابرة سألني ذلك الوزير، وعلى مسمع من وزير عربي ثالث، لا يزال في منصب رئيسي هام، سألني عن بلادي سؤالا يمثل صورة محزنة مخيفة من صور الجهل السياسي. سألني.

ـ وهو الوزير المنوط به أمر التوجيه والاعلام السياسي في بلاده ـ سألني عن بلدي في أمر بات شأنه معروفا لكل من يعنى بمتابعة الأحداث في العالم العربي متابعة عادية مألوفة.

ومعذرة للقارئ في حفاظنا على سرية الواقعة، فان الهدف من روايتها هو الاستعانة بالمعنى الذي تمثله هذه القصة وليس التشهير بأبطالها..

كان سؤاله مثيرا لدهشتي فلم اعطه الجواب. ولبثت لحظة أنظر إليه وفي جوانحي ثورة المظلوم.

قال لي: هل اغضبك سؤالي؟ قلت له: كلا.. ان سؤالك لم يغضبني ولكنه احزنني.. قال لماذا؟ قلت: لو أن سؤالك هذا جاءني من وزير اعلام كامبوديا او وزير اعلام تشيلي، او وزير اعلام ساحل العاج، لما رأيت في الأمر عجبا.. اما ان يأتيني هذا السؤال من وزير اعلام عربي وضع نفسه في مراتب القادة العارفين، يصدر احكامه السياسية.. ويضرب ويطرح.. ويصنف الدول العربية الى فئة تقدمية متحررة حق لها ان تعيش، وفئة اخرى رجعية متخلفة ليست جديرة بالحياة.. ان يأتيني هذا السؤال من ذلك الوزير العربي.. فتلك هي الكارثة..!

ومضيت أقول: يا سيدي ان المصيبة ليست في انكم تجهلون الشيء الكثير أو، بالأحرى لا تعرفون شيئا عنا، ان المصيبة هي في انكم تحددون علاقتكم السياسية مع بلادنا وانتم في متاهات لا حدود لها من الجهل السياسي وسوء التقدير.. انك تجلس في مكتبك وتحكم على بلدي بالتخلف والجمود وانت لا تعرف عنه شيئا.. لا عن تكوينه الاجتماعي، ولا عن حاضره، ولا عن ماضيه، ولا عن منجزاته.. ولا عن واقعه الحضاري، ولا عن مخاوفه أو حتى أمانيه.. لذلك فنحن لا نعبأ بأحكامكم لأنها احكام لا تستند الى العلم والموضوعية واليقين.

واعترف انني كنت منفعلا وأنا اتحدث اليه، واعترف ايضا أنه كان حليما صابرا وهو يطالع معاني الصدق والألم فيما أقول.

ولا تنتهي القصة عند هذا الحد. فقد ادرك الوزير اننا بهذا التحديد نضع يدنا على جانب مهم من الجوانب الأساسية في بناء العلاقات العربية. واعترف، ذلك الوزير الثوري، بأن اكبر مصادر الخلافات العربية هو قصور كثير من المسؤولين العرب عن معرفة البلاد العربية الأخرى معرفة دقيقة تنتهي بالحاكم منهم الى الرأي السليم.

ومع الأيام القليلة التي شهدت اجتماع وزراء الاعلام ولقاءاتهم المستمرة اضحى صاحبنا اصدق مشاعر وأكثر ميلا الينا، وطالعني، في ساعة من ساعات الحديث الموضوعي الهادئ، بمفاجأة مذهلة حين أقسم لي ان وسائل الاعلام في بلده كانت تتسابق مع وسائل الاعلام في بلد عربي آخر على التعريض بالمملكة والنيل منها هي وبلد عربي آخر حقق استقلاله بعطاء سخي من الدماء.

وحين سألته عن سبب هذا التسابق الغريب، قال لي اننا نعتقد ان التسابق على التعريض بكم والنيل منكم يرفعنا في نظر الجماهير العربية الى مكان الصدارة في طليعة الركب العربي الثائر المتحرر.. فأنتم رجعيون.. والحرب على الرجعية عندنا تأتي في قمة القمم من واجبات التحرر.

لم استطع ان ادع آثار هذه القصة العجيبة تذوب في آثار الأحداث الأخرى المتلاحقة من دون أن أجد نفسي مدعوا ـ وبإلحاح ـ الى طرح السؤالين التاليين:

أولا: هل صحيح ان ذلك الوزير الثوري يجهل بلادي الى هذا الحد المؤسف، أم انه يعلم هو ورفاق ركبه التقدمي الثائر حقيقة بلادي ويتجاهلون الحقيقة عمدا من اجل مخطط سياسي يبتغون تنفيذه؟

القناعة التي تملأ ضميري هي ان ذلك الوزير العربي وأمثاله من رفاقه الثوريين يعيشون فعلا ـ كما قلت في مقدمة هذه الكلمة ـ في متاهات من الجهل السياسي وسوء التقدير.. والسبب هو انهم يقررون الاحكام سلفا دون بحث او استقصاء، ويعتقدون ان أي نظام من انظمة الحكم لا يتلاءم مع خطهم او هواهم هو نظام رجعي مدان، لا يستحق منهم فضيلة البحث والاستقصاء.

وسبب آخر هو انه، وان توافرت ـ فرضا ـ عندهم الرغبة في متابعة الأحداث متابعة موضوعية سعيا وراء تكوين الحكم السليم، فإن هموم الصراع السياسي الذي يعيشون فيه مع بعضهم لم تبق لهم شيئا من نعمة البحث والتفكير.. ولذلك فهم غالباً ما يعتمدون على تقارير سطحية العلم والفهم وحسن التقدير، يبعث بها ممثل دبلوماسي لا يعرف عن البلد الذي يعمل فيه الا المدينة التي يعيش فيها ويوجد فيها مكتبه ومسكنه وسيارته.

ثانياً: هل صحيح ان التهجم بوسائل الاعلام علينا وعلى غيرنا يضعهم أمام الجماهير العربية ـ والشعب العربي السعودي من هذه الجماهير ـ في طليعة الركب العربي الثائر المتحرر؟

اعتقد غير مسرف في تفاؤلي، ان هذا الظن من جانبهم وهم كبير.. لأن وسائل الاعلام مهما أسرفت في صنع الاكاذيب فإنها لا تستطيع ان تحول هذه الاكاذيب الى حقائق يساندها اليقين: قد ينجحون في اثارة الشك، والحقد أيضا أحيانا، في قلوب الساذجين ولكن يتعذر القول بأن الشعوب العربية كلها حشد من الساذجين.

فلا خوف من وسائل الاعلام على بلد ـ أي بلد ـ يشعر فيه المواطن باستقامة الحاكم وعدالة الحكم. ولا خوف من وسائل الاعلام على بلد لا ظالم فيه ولا مظلوم.

ولا خوف من وسائل الاعلام على بلد لا يعاني من سيئات حكم الارهاب والتسلط والبطش بلا حساب.

ولا خوف من وسائل الاعلام على بلد ينام فيه المواطن غير خائف من مفاجآت الصباح.

وأخيراً لا خوف من وسائل الاعلام على بلد ـ أي بلد ـ ينعم فيه المواطن بحرية الرزق والعمل والحماية والاستقرار.

واذا كانت وسائل الاعلام لا تهز قواعد الحكم السليم في بلد يقوم فيه الحكم على العدل والحكمة والرخاء.. فإن وسائل الاعلام ـ مهما بلغت في عتوها ومداها ـ لا يمكن ان تحمي نظاماً من الحكم يقوم على الظلم والتغرير، والعنت.. والضائقة.. وهدر الكرامة، واغتيال الحقوق.

فالبطون الجائعة لا يشبعها بريق الشعارات.

والباحثون عن العمل لا يرضيهم قرع الطبول والأناشيد.

والمصابون في رزقهم وحريتهم لا تهزهم أعراس المد الثوري وأكاذيب حكم الشعب بالشعب.

صحيح ان بعض البلاد العربية قد فقد استقراره نتيجة لحماقات بالغة ارتكبها المخدوعون بنداءات بعض وسائل الاعلام، الا ان التجارب المحزنة لا يمكن ان تسير الى نهايتها دون ان تخلف وراءها العبرة والدرس العميق.

وقد وضعت الاحداث الرهيبة الدامية التي صنعتها حماقات المد الثوري خلال السنوات العشر الماضية.. وضعت هذه الأحداث أمام المواطن العربي حصيلة مخيفة من الشواهد على المحنة وسوء المصير.

وبعد:

أين ذهب ذلك الوزير الثوري؟

لقد غرق في العواصف التي اثارتها في بلاده مواكب رفاقه الأحرار.

غرق.. كما غرق قبله، وكما سيغرق بعده الكثيرون..

واعترف انني احببت ذلك الرجل لأنه قبل ان يسمع.. وان يناقش. وان يأخذ ويعطي، وان يسمح في النهاية لبريق من الحق يضيء في رأسه المختلط بالتحامل، والجهل، والكبرياء..

وهذا نموذج نادر فيمن عرفته من الثوار التقدميين..

* وزير سعودي سابق وأمين عام مجلس التعاون الخليجي سابقاً

** نشر هذا المقال في جريدة «المدينة» السعودية قبل أربعين عاما و«الشرق الأوسط» تعيد نشره الآن، بسبب ندوة الملك فيصل التي عقدت أخيرا، ونظرا لكون الكاتب ممن عاصروا تلك الفترة واسهموا في أحداثها.