الانتقال من الدولة الفاشلة إلى الدولة المحتلة

TT

في مقال نشرته جريدة «الشرق الأوسط» في العدد رقم 10140 وتاريخ 2/9/2006م تطرّقتُ فيه لمفهوم الدولة الفاشلة والمعايير التي تؤهل دولة ما لتكون فاشلة وذلك وفقاً للمؤشر السنوي الذي تصدره مجلة FOREIGN POLICY الأمريكية، ومن هذه العوامل وجود دولة داخل دولة مما يتعذر بسط نفوذ الدولة الشرعية داخل حدودها الإقليمية والدولية بسبب هيمنة المليشيات والأحزاب المسلحة ووجود نخب تسمح بتدخل دول أخرى بالتأثير المباشر على سياسات هذه الدولة وقراراتها وما يمثله مفهوم الدولة الفاشلة في أدبيات وخطابات وتحليلات الساسة في الغرب من خطر على الأمن والسلم العالمي كونها بؤرا حاضنة للإرهاب.

وقد كانت ردود الأفعال في وقتها من قبل الكثير من القراء المعنيين على ذلك المقال في معظمها ردودا عاطفية متعجلة صاحبها زخم من الألفاظ الخارجة عن السياق العام لأدب النقاش كوني اعتمدت على مؤشر تصدره مجلة أمريكية أوردت فيه عدد من الدول العربية والإسلامية من ضمن تلك الدول الفاشلة وعلى رأسها لبنان (والذي لا زال يتصدر قائمة الدول الفاشلة في تقرير مجلة السياسة الخارجية FOREIGN POLICY الأمريكية للعام 2007م) ومن ضمن تلك الردود وهي كثر من دافع عن حزب الله تحديداً وجعله في موضع القداسة وفوق الشبهات والنفي القاطع، أن يكون حزب الله قد خرج على سلطة الدولة الشرعية في لبنان، فهو في نظرهم المقاوم للاحتلال الإسرائيلي، وسلاحه لا يمكن أن يشهر إلا في وجه العدو الإسرائيلي، وأن من ينتقد حزب الله فهو ينطلق من أجندة صهيونية أمريكية أو طائفية وغيرها من......!! وبعد قرابة السنتين مـن ذلك السجال أعود وأقول بأن حزب الله قد برهن بنفسه لأولئك المتعاطفين وللعالم أجمع أن تلك الدراسات والتنبؤات حول فشل الدولة في لبنان بسبب وجود الحزب كدولة داخل الدولة ووجود نخب تسمح بتدخل دول أخرى، (كإيران وسوريا)، بالتأثير المباشر على المشهد السياسي اللبناني، وقراراته، لم تأت من فراغ، بل جاءت بعد دراسة سياسية تفكيكية نقدية، وموضوعية للمشهد اللبناني، وها هو الآن حزب الله يثبت بعد اجتياحه لبيروت واستباحته لها بأنه لم يكتف بسلب حق الدولة اللبنانية الشرعي فقط (كدولة ذات سيادة) بل أن مفهوم الدولة قد سقط فعلاً، بعد ذلك الاجتياح وإن بقيت الحكومة في السرايا وانتخب رئيس جديد، فقد تجاوز لبنان مفهوم الدولة الفاشلة إلى مفهوم الدولة المحتلة (من قبل إيران ولو بالوكالة)، حيث سيبقى حزب الله هو المسيطر والمسيّر الحقيقي لشؤون الدولة ما لم يكن هناك تحديد للعلاقة بين الحزب والدولة تحديداً واضحاً بما في ذلك موضوع السلاح (سلاح المقاومة!!) واستمرار بقائه في يد الحزب وغيره من الميليشيات، إلا أن الشيء الذي لم يكن في حسابات الذي أعطى الحزب الأوامر بالاجتياح هو أن تحقيق الحزب لهذا النصر الإلهي الآخر والمزعوم على الأرض، وبقوة السلاح، على إخوته وأهله في الدين والجوار والوطن قد، ألحق بالحزب ومن هم وراءه خسارة فادحة في المعركة الأهم، في الداخل اللبناني والعالمين العربي والإسلامي والتي سخر لها آلته الإعلامية، وآلة من خرج من رحمهم طوال العقود الماضية (تلك هي معركة كسب العقول والقلوب) فعلى الحزب أن يدرك بأن الوضع قد تغير كما قال سيدهم، ولم تعد الأمور على ما كانت عليه. فكما أن الحزب احتل الدولة فهو أيضا قد أسقط المقاومة وعليه أن يدرك أن السبيل إلى إعادة الثقة في الدولة و بنائها من جديد لا يمكن أن يكون تحت ضلال السيوف وبيارق الطائفية بل من خلال صياغة عقد اجتماعي جديد يجعل مفهوم الدولة والمحافظة عليها واستمراريتها فوق كل اعتبار طائفي، حزبي، آيديولوجي وما عدا ذلك فهو تكريس لاحتلال الدولة من قبل الخارجين عليها.

إن ما جرى في لبنان، من قبل ميليشيا حزب الله، واللامبالاة من بعض الحكومات العربية للتعامل مع ذلك الحدث (تعاملاً بحجم تداعياته)، لمؤشر خطير يوحي بأن بعض الحكومات العربية لا زالت ترتكب الخطأ تلو الآخر نتاج قراءة خاطئة للمشهد السياسي الإقليمي أو نتاج عجز دبلوماسي للتصدي للتدخلات الإقليمية في الشأن العربي وكشف الأقنعة المتسترة خلف المقاومة والصراع العربي الإسرائيلي لتمرير هذه التدخلات وتغييب الرأي العام العربي (المحبط) عن الأخطار المحدقة بالمنطقة من أطراف أخرى لا تقل خطورة عن الجانب الإسرائيلي مما وضع تلك الحكومات أمام حالة سياسية جديدة، تجعل من المليشيات المسلحة والمتمردة على شرعية الدولة ظاهرة جديدة ومقبولة، مما يؤهل تلك المليشيات لأن تصبح لاعباً جديداً في معادلة المقامرين الكبار في المنطقة! فهل نرى في الأعوام القادمة مؤشراً جديداً للدول الفاشلة (الصاعدة على سلم العنف والتطرف) إلى مصاف الدول المحتلة (والمرشحون في منطقتنا في المستقبل للاكتواء بنار تلك المليشيات ومن يقف وراءها كثر....!!) وفرض تلك المليشيات لواقع جديد في هذه المنطقة، كما فعل حزب الله، عندها سنجد أن لبنان قد عاد وتصدر القائمة كدولة محتلة من قبل دولة محتلة..!!؟

[email protected]