عندما فكّرت (بالحور العين)

TT

هل مرّ عليكم رجل نصفه خليجي ونصفه الآخر سويسري؟! ويتكلم اللهجة الخليجية المكسّرة مشوبة باللغة الفرنسية الطليقة؟! ـ وللمعلومية والمصداقية فوالده كويتي وأمه سويسرية.

أنا صادفت ذلك الرجل في (زيورخ) وتعرفت عليه وتوسمت به خيراً، لأنه قال لي بالحرف الواحد: سوف (أدعمك) لتصبح من أنجح رجال الأعمال، وحيث أن هذا كان أملي منذ نعومة أظفاري حتى تلك اللحظة (المفلسة)، فقد تشبثت بذلك الرجل واعتبرته مثلي الأعلى في هذه الحياة، وهو (ليلة القدر) التي طلعت لي من مؤخرة هذه الأرض.

وسألني هل جربت أن تأكل (الفاندو)؟ قلت له: لا، قال: هل تحب أن تأكله مع جبنة (الشيفر) أم مع (الفياند)؟! قلت له: أرجوك لا هذا ولا هذا. ضحك من سذاجتي وقال: أكيد أنت تحب (الجبسة والدياي) ـ يقصد الكبسة والدجاج ـ قلت له أبداً، أحبك أنت.. فازداد ضحكه أكثر وكأنني قلت له نكتة.

لا أريد أن أطيل عليكم، فقد عايشته عدة أيام وأصبحت له (أطوع من بنانه)، لا أرد له طلباً ولا اقتراحاً، ولو أنه دخل (جحر ضب) دخلت معه وأنا مغمض العينين دون أي تردد، فهو قد (عشمني بالحلق فخرمت له آذاني)، ولا شك أنه استخف دمي وعقلي كذلك، والدلالة أنه من صباح ربّ العالمين كان يتحفني باتصالاته ومواعيده.

وفي يوم من الأيام أخذني من يدي وكأنني طفل يتيم، وذهب بي إلى مضمار تزلّج، وقال لي: أعرف أنك رجل شجاع وأريدك أن تجرب هذه الرياضة الرائعة، ومدتها لا تزيد على دقيقة واحدة، قلت له وقد استخف بي المديح، وفي نفس الوقت أردت أن ألبي طلبه وأكسب رضاءه، خصوصاً أن مدتها لا تزيد على دقيقة، فقلت له وأنا أفرد عضلاتي: إنني جاهز وعلى أتم الاستعداد. فما كان منه إلاّ أن يشير للرجل المسؤول الذي أخذني وألبسني سترة رياضية تحتوي على حذاء خاص، وخوذة من البلاستيك، ونظارة كبيرة، ثم بطحني على زلاّجة تشبه نعوش الموتى ومددني عليها، وكان رأسي للأمام وقدماي للخلف، ثم ربطني بحزام ماسك، كل هذا كان يجري وأنا مستسلم لا أدري ماذا سوف يكون، وفجأة وإذا به يقول لي: استعد تماسك ثم دفعني دفعة قوية، وإذا بي انحدر في طريق ضيق متعرّج تحفّ بي جدران لا يزيد ارتفاعها على متر واحد، وأخذت أصرخ واستنجد، وكلما ارتفع صراخي ازدادت سرعة الزلاجة أكثر إلى درجة أنني أحسست أن أذني تكادان تتفجران، وعرفت في ما بعد أن سرعة الزلاجة المندفعة كانت تزيد على 130 كيلومترا.

وكانت تلك الزلاّجة، الله لا يذكرها بالخير، ترتفع وتهبط وتتأرجح بعنف على الثلج دافعة بالقضيب الحديدي المستعرض في أمعائي، وكنت أتلقى خبطات جوانب الجدران في عنف ماسحاً بها يدي وكوعي وكتفي.

وتذكرت ذلك المثل التعيس القائل: (إذا وقعت يا فصيح لا تصيح)، أي فصاحة وأي صياح، لقد تقطّعت حبالي الصوتية من كثرة الصياح، ولا من سامع ولا من مجيب ولا من راحم.

وأخذت أشتم نفسي، بل إنني شتمت كل من خطر ببالي، بما فيه ملايين رجال الأعمال، وما كدت أصل، أو بمعنى أصح (ارتطم) بالحاجز النهائي، حتى ران عليّ صمت ثقيل اعتقدت معه أنني انتقلت إلى العالم الآخر.. حاولوا تحريكي واستنهاضي، وكنت وقتها بدون مبالغة (جثة هامدة)، أفكر فقط (بالحور العين).

رجعت للحياة مرّة أخرى، وانهالت دموعي لا شعورياً أمام الرجل (الخليجي السويسري)، الذي أخذ يداعبني ضاحكاً ويسألني إن كنت قد استمتعت خلال هذه الدقيقة المبهجة؟!

ذهبت لارتداء ملابسي وأنا (أترنّح) كبندول الساعة.. وفي ثاني يوم غيرت فندقي، وأقفلت تليفوني، وعاهدت نفسي أن لا أكون رجل أعمال بأي حال من الأحوال حتى لو مارست مهنة الشحاذة.

والحمد لله على هذه (المرسمة) الصعلوكة التي بين أصابعي.

[email protected]