عندما تكون المقاومة مشروع استعباد لا تحرير

TT

ارتبط مفهوم المقاومة في الذهن العربي والاسلامي وربما العالم ثالثي اطلاقا بنوع من الرومانسية المقرونة بقيم الشجاعة والنبل وتحدي الظلم، لكن هذا المفهوم التقليدي المولود تحت إلحاح الظرف التاريخي الذي مثله الاستعمار العسكري، بات يشكل ثقلا على ذات الشعوب التي تربت على تقديسه مع تحول المقاومة من كونها وسيلة الى غاية، من ضرورتها كمقاومة ضد الظلم الاجنبي الى مقاومة من اجل المقاومة وسلاح من اجل السلاح!! المشكلة هنا في اننا بالغنا بتقديس المفهوم، فأصبح في كثير من الأحيان خارج السياقات العقلانية، مجرد (تابو) آخر لا يقبل النقاش والمساءلة في الوقت الذي تغيرت فيه الحياة وكثير من مفاهيمها ومعطياتها، ولم يعد هناك استعمار بالمعنى التقليدي يستوجب الإبقاء على مقاومة بنفس المعنى.

الخطر الكبير هو في أن مشروع المقاومة عندما يفقدُ وظائفه التقليدية يتحول الى مشروع استعباد لا تحرير، وهو اول ما يستعبد رجالاته الذين لا يعودون مدركين لأنفسهم دورا خارج منظومته الحماسية فيصبحون ميالين الى تأبيد الصراع لتبرير عجزهم عن الحياة خارجه. لنتخيل مثلا لو ان اليابان لم تختر بعد الحرب العالمية الثانية اعلان الاستسلام وقررت تحت ضغط جرح الكبرياء الوطني ونكبة اليابانيين بقنبلتي هوريشيما وناغازاكي اختيار المقاومة سبيلا، هل كانت ستغدو اليابان التي نعرفها اليوم؟ وهل كانت اي مقاومة ستختارها قادرة على ان تعيد الكبرياء الوطني كما فعل قرار الاستسلام؟ في الحقيقة اننا اليوم لا ننظر الى اليابان او المانيا كأمم مهزومة بل كنموذجين جديرين بالاحترام فالدولتان اليوم ضمن الأمم الاربع الاولى في حجم التفوق الاقتصادي والتكنولوجي بعد ان بنتا نهضتيهما بتخلٍ تامٍ عن الخيار العسكري وفي ظل وجود شكل من اشكال الاحتلال مثلته قواعد امريكية عسكرية ضخمة على اراضيهما. واليوم هل يمتلك احد منا الحق بالطعن في وطنية اليابانيين او الالمان او التقليل من انجازات هاتين الامتين اللتين قاومتا وفق مفاهيم جديدة دحرت تماما المفهوم التقليدي للمقاومة.

ليس العيب في فكرة المقاومة نفسها بل في الإصرار على الباسها ثوبا واحدا ثم تحويل ما يبدو انه احد تعبيراتها الى مرادف لها يصادر كل ما تنطوي عليه من معانٍ أخرى. المقاومة اصلا تستهدف مواجهة ظلم ما من اجل ازالته وإحلال حياة بديلة يمكن للناس فيها ان يعيشوا بكرامة ورفاهية، اي انها تستهدف اصلا اقامة الحياة لا مصادرتها وفتح الطريق للبناء لا اغلاقها، المقاومة تفقد اي جدوى عندما لا يكون الانسان وكرامته وحياته ورفاهيته غايتها. ولننظر الى «مقاوماتنا» الراهنة والى انجازاتها المفترضة لخدمة كرامة الانسان، لنصل الى نتيجة واحدة هي ان «المقاومة» عندنا اصبحت غاية اكثر من كونها وسيلة، وهي غاية ترهن اوطانا كاملة لمشروع غامض الحدود والاهداف. لست هنا من دعاة «الاستسلام» اذا كان ذلك ما سيفترضه البعض، ولكنني من دعاة المقاومة على الطريقتين الالمانية واليابانية، فهي وحدها التي تجعل من الاستسلام نفسه مشروعا للمستقبل. ان مقاوماتنا تتحدث صباح مساء عن الكرامة والكبرياء والشرف متشبثة بتعريف تقليدي أحادي لكل منها، والسؤال هو أي كرامة تلك ومناطق المقاومة تعاقب بالحصار والقصف والجوع والجهل والمرض وتصادر حرية ابنائها تحت إلحاح تكتيكات المقاومة التي تفجر عبواتها وتطلق نيرانها بين منازل الفقراء، فتحيلهم الى مزيدٍ من الفقر والفاقة والخراب. هل من كرامة لإنسان جائع او اب يبحث عاجزا عن علاج لابنه الذي جرح إثر رصاصة «طائشة» اطلقها المقاومون او عدوهم. واذا كان شرط الحياة للمقاومة هو ان تتوقف الحياة الطبيعية في محيطها البشري والجغرافي، وان يتوقف الزمن وتؤجل كل «الكماليات» كالتعليم والصحة حتى «التحرير» الذي يظل بعيدا ومؤجلا وغامضا، فان كرامة وكبرياء وشرف الفرد يتم التنازل عنها ضمنا لصالح «كرامة المجموع» التي في النهاية لا ترفع سقفا ولا تكسي عارياً.

إن مقاوماتنا باصرارها على الشعارات الكلاسيكية الكبيرة انما تخدم الخصم نفسه الذي بإصراره على استخدام تلك المواقف كذريعة لضرب «المقاومة» يشرعن ما ارتكبه من ظلم في مطاولة وعناد بين الطرفين ضحيته دائما البسطاء، وهم غالبية الناس في مجتمعاتنا. لقد بات مشروع المقاومة، وهو يلبس ثوباً اصولياً مشروع استعباد دائم لان «الاصولية المقاومة تتغذى على المفاهيم القدرية واطفاء وهج المعرفة الحديثة بل على الجهل نفسه لضمان تحويل المجتمع الى مفقس دائم للمجاهدين في معركتهم الصفرية مع العدو. هل من المصادفة ان معظم مقاوماتنا في ظل اصرارها على فرض اجندة القضايا «الكبرى» تسهم في تعويم القضايا الحياتية الملحة وبظهور طبقة سياسية طفيلية تهيمن اذرعها الاخطبوطية على «المؤسسات» في الوقت الذي ينشغل فيه البسطاء بمداواة جروح «معارك المصير».

لقد ادت مصادرة مدن وبلدان بأكملها تحت ضغط مشروع المقاومة الى تأجيل كل ما سواها من مشاريع لبناء الانسان فلم تعد الحياة هي غاية المقاومة عندما تسرب الموت نفسه باسم «الاستشهاد» ليغدو هو الغاية. ان معظم الانتحاريين هم إما اميون او قليلو التعليم ومنكوبون بفقر مدقع وحياة اغلقت ابوابها عن اي فسحة امل، فأصبحت قراءتهم للنجاة هي في التخلص من الحياة بحثا عن نعيم الجنة الذي يعجزون عن انتظاره. ما الذي يبقى من غايات المقاومة عندما يصبح الموت غايتها، وما الذي يبقى من رومانسيتها عندما تقرن وجودها بإطفاء جذوة الحياة بين ظهرانيها، وعندما يغدو بقاؤها سببا في عجز الوطن عن البقاء..