مبروك يا فخامة الرئيس.. ولكن!

TT

بعد مخاض عسير يبدأ اليوم عهد جديد في لبنان.

صفحة جديدة، ربما، ولكن من دون تغيّر جذري في العقلية. فحتى وزير الخارجية الفرنسي العصبي الطيّب القلب برنار كوشنير أدرك ذلك، وأعرب صراحة عن أن الأمور الجديّة لم تحسم في الدوحة.

أكيد، مهمٌ جداً ما أُنجز في الدوحة، وهنا لا نريد أن نعرف كيف تسنّى إنجازه... بعدما تعذّر ذلك على الدبلوماسية الجوّالة، ووسط «تأييد» معنوي أميركي يصمّ الآذان، و«حياد» سوري غاية في النزاهة من ماركة «نحن على مسافة واحدة من جميع اللبنانيين»؟!، وحدب إيراني أحادي الجانب يعزّ نظيره هذه الأيام.

ما علينا...

المهم صدر الحكم، وسمح للبنان بالخروج من عنق «زجاجة مولوتوف» ... أملاً بموسم اصطياف ينقذ ما يمكن إنقاذه من اقتصاد مترنّح، ويبدّد الالتهاب القاتل الذي تجاوز كل خطوط الفتنة الحمراء، وييسّر للقادة الإطلالة على قبائلهم لبيعها بعض الأمل، حيث بدا هذا الأمل معدوماً خلال أسبوع من الحقد الجنوني.

الرئيس التوافقي الجديد العماد ميشال سليمان بويع محلياً وعربياً ودولياً. وبالتالي، أمامه فرصة عظيمة لمنع الانزلاق نحو الهاوية، حتى إذا لم تتوافر له جميع عناصر إعادة اللحمة العضوية لوطن مشرذم، على أساس قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ» (الرعد:11).

ومَن سمع كيل المدائح من شتى الجهات على الرئيس سليمان خلال الأيام القليلة الفائتة ليستغرب لماذا تأخر اللبنانيون في رؤية مؤهّلاته شهوراً عديدة ذرّت فيها الفتنة قرنها، وكادت تجعل من لبنان كلّه «نهر بارد» آخر أكبر وأبشع!

الرئيس سليمان لا شك رجل يتمتع بالمواصفات الملائمة لهذه المرحلة الحرجة. ومن حقه على اللبنانيين، جميع اللبنانيين، الوقوف معه وشدّ أزره وتسهيل مهمّته. لكنه في المقابل، على ما أحسب وأسمع، رجل واقعي أيضاً.

فهو لفرط واقعيته أدرك منذ وقت ليس بالقصير فضائل المحافظة على الجيش «جيش اللا استعمال» ـ على حد وصف أحد الأكاديميين اللبنانيين من الضباط السابقين ـ، وذلك لأنه يفهم جيداً أن هذا الجيش صورة مصغّرة عن الشعب. فعندما يكون الشعب مشرذماً ومشتّتاً يصبح زجّ الجيش في أي معركة حسم داخلي وصفة أكيدة لشرذمته وتشتيته.

موقع رئاسة الجمهورية إلى حد بعيد شبيه بموقع الجيش، لكنه أكثر تعقيداً ... لأنه لا ينفع معه «اللا استعمال» عبر الهروب من مواجهة الانقسام. وصحيح أن رئيس الجمهورية رمز وحدة البلاد والحَكَم النزيه بين تياراتها المتصارعة، لكن بينما العسكر ممنوعون من مزاولة السياسة، فإن رئيس الدولة هو رأس اللعبة السياسية.

ولئن كان سَلَف الرئيس سليمان قد انحدر بهيبة الرئاسة، فأفقدها موقع «الحَكَم النزيه» مرة بذريعة التصدّي لفساد المال السياسي، ومرة ثانية تحت ستار استعادة صلاحيات المنصب للمسيحيين، وثالثة بزعم المحافظة على سلاح المقاومة، فإن على الرئيس سليمان إعادة الاحترام لهذا الموقع بعيداً عن متاريس التكتّل الطائفي والمذهبي المستتر المبنية بهمّة النظام الأمني، الذي كان يحكم البلاد من وراء الستار.

الرئيس سليمان رئيس توافقي، وكلمة «توافقي» هنا كلمة خطيرة لمعنييها الإيجابي والسلبي.

فإيجابياً هو الشخص الذي يشكّل القاسم المشترك في بلد على شفير هاوية. أما سلبياً فالمعنى أنه لم يكن ـ وهو ليس في مطلق الأحوال ـ الخيار الأول أو المفضّل لأي من أفرقاء الصراع في البلاد. وفي كلتا الحالتين الإيجابية والسلبية يؤمل منه أقصى درجات الحصافة والمسؤولية في التعامل مع قيادات انعدمت تقريباً الثقة المتبادلة من صفوفها، وجماهير لم تعترف في يوم من الأيام بأنها في نهاية المطاف تتحمّل مسؤولية كبيرة عن شطط القيادات التي تسير خلفها.

أكثر من هذا، علينا الاعتراف بأن ما حدث خلال ذلك الأسبوع الأسود بعد 7 أيار / مايو خطير... وخطير جداً، ليس فقط لأنه قضى نهائياً على الأكذوبة القائلة بأن سلاح المقاومة لا يوجّه إلى الداخل، بل لأن مشاريع التهجير الجماعي والهندسة الديموغرافية قسراً... ما زالت حية تُرزق ـ أو تسعى ـ لا فرق!

لعل خطورة بهذا الحجم هي ما نبّه عدداً من اللاعبين الكبار إلى مغبّة تساقط المسلّمات والمحرّمات.

من جانب آخر، يدرك الرئيس سليمان تماماً معنى موقع لبنان الجغرافي، ويفهم مغزى الصفقات التي تعقد من فوقه وعلى يمينه وعلى شماله... ويُدفع فيها رخيصاً دم أبنائه.

فلم يسبق أن غرّم شعب ـ إلا الشعب الفلسطيني طبعا ـ بمثل ما غرّم به الشعب اللبناني، في لعبة ترتيب أوضاع المنطقة. والمحبِط بالنسبة للبنانيين اليوم إن جزءاً كبيراً منهم وعى هذه الحقيقة وانتفض يوم 14 آذار/ مارس 2005 ضد مواصلة الاتِّجار برزقه ومصيره تحت شعارات نضالية مزيّفة فارغة، في حين لم تصل الرسالة البشعة بعد إلى أخوتهم في الشقاء من أبناء فلسطين.

كم سيوفّر على الجميع استيعاب تطوّرات الأسبوع الأخير في اسطنبول.

فخامة الرئيس نهنئك ولا نغبطك. فالتحدّيات صعبة والظروف أصعب، ومخطّطات التآمر مستمرّة، طالما لم يحصل أصحاب العلاقة على ما يطمعون به.

وجميل جداً جعلك «المصالحة» الهدف الأول لرئاستك لكن لا مصالحة حيث لا وجود للعدالة، ولا عدالة حيث زيد مسلح وعمرو أعزل، ولا مقوّمات لوطن إذا كان السلام فيه يعني الهدنة، والوفاق فيه يعني الهروب من قول الحقيقة، والتعايش فيه يعني النفاق.