أبو «زيت» الهلالي!

TT

سيرة زيت النفط تواصل أسر ألباب الناس، وتأبى إلا أن تحتل العناوين والأخبار العاجلة المهمة.

ومن جديد يخترق سعر برميل الزيت المعدلات القياسية ويخترق حاجز المائة وخمسة وثلاثين دولارا للبرميل. والحيرة في تفسير أسباب هذا الصعود متواصلة، والحيرة في كيفية التعامل معه مستمرة، والحيرة في معرفة مسيرة ومصير هذا الارتفاع بلا نهاية! ومع الاحترام الكبير لنظرية العرض والطلب، وازدياد مخاوف مؤسسات مراقبة السوق والانتاج المحذرة بقوة، بأن السوق مقدم على أن يكون الطلب فيه أعلى من العرض، إلا أن هناك عنصرا جديدا دخل بقوة ليفسر هذا الارتفاع المحموم. وهذا العنصر هو مستثمرو البورصة، نعم فهناك مجموعة غير بسيطة من مستثمري السلع، دفعوا بارتفاع محموم للزيت (وكذلك الذهب والفضة وغيرها لمراحل هائلة الارتفاع) وهذه المجموعة تشتري الآن النفط بكميات مهولة لمصلحة محافظ المتقاعدين المستقبلية، وكذلك لمصلحة استثمارات أوقاف الجامعات والمؤسسات الخيرية العملاقة، وتقدر حجم هذه المشتريات السنوية من النفط وحده ما يقارب كمية 848 مليون برميل، علما بأن هذه الكمية لو قورنت باحتياج الصين السنوي المتزايد وهو 920 مليون برميل، فالكمية عموما متقاربة جدا ووقتها من الممكن «فهم وتفسير» سبب هذا النمو المجنون، فبينما يغطي احتياج الصين تفسير جانب العرض والطلب، يفسر لنا الرقم الأول تفسيرا عقلانيا ومنطقيا ظاهرة المضاربة التي اجتاحت أسواق السلع عموما والنفط تحديدا، ولكن هذا الأمر يفتح الجدال والنقاش اذا كان ما يحدث الآن هو تكوين متسارع لـ«فقاعة» ضخمة شبيهة بما حدث لشركات التقنية العالية في فترة التسعينات الميلادية من القرن الماضي، وأيضا ما حدث في قطاع العقار وتمويله مؤخرا، قد تكون هناك «فقاعة» تتكون بالفعل ولكن معظم الآراء العاقلة ترجح محدودية الأثر لهذه الفقاعة نظرا لأهمية الطلب واستمرار تناميه بنسب غير عادية.

وهذا الوضع المضطرب بالنسبة للدول الصناعية الكبرى يولد ردود فعل مضطربة أيضا، ولعل ما حدث في مجلس الكونغرس الأمريكي وتمريره لمشروع قانون يعاقب الدول الأعضاء في منظمة الدول المنتجة للنفط (أوبك) يؤكد الارتباك الحاصل، ويقدم نموذجا على «حماقة» التشريعات السياسية، حين يتوتر القائمون عليها ويصدرون اقتراحات فقط لإرضاء العامة الثائرة من باب إثبات الوجود لا أكثر. الحديث لم يعد «غريبا» و«شاذا» عن إمكانية وصول أسعار برميل النفط لسعر الـ200 دولار خلال عام 2008، وهذا سيعني أن سعر الغالون في محطات البنزين بالولايات المتحدة الأمريكية، سيكون فوق السبعة دولار، وهذا معناه تغيير كامل في اسلوب الحياة بالنسبة لمواطني الدول الصناعية، ولعل بعض علاماته بدأت تظهر الآن.

فها هي شركة «فورد» العملاقة لصناعة السيارات تقرر تقليص كبير في انتاجها، وخصوصا الموجه منه لصالح الشاحنات والعربات الرباعية الدفع ذات المعدل العالي لاستهلاك الوقود، وها هي شركة الخطوط الأمريكية الكبيرة تبدأ نهجا جديدا في خدمات الطيران، وهو محاسبة كل راكب عن كل حقيبة معه (بمعنى أنه لا توجد حقائب مجانية ممكنة شحنها جوا بعد اليوم!)، كل هذا المناخ المحموم في أسعار النفط أدى الى أن يكون الطلب على سيارة تويوتا «بايروس» وهي السيارة التي تعتمد على الطاقة الكهربائية مع البنزين لأن يصل الى معدلات كبرى، بلغت فيها فترة الانتظار أكثر من شهرين، وبلغت معدلات استخدام وسائل النقل الجماعي بكافة أشكاله مستويات متقدمة، وها هي معدلات بيع «الفسبا» وهي الدراجة النارية ذات الاستخدام البسيط وذات العائد العالي على الغالون الواحد، معدلات بيعها ارتفعت أكثر من 40%، ومن المتوقع أن تظهر تشريعات بيئية جديدة تحث على التوفير في استهلاك النفط، وتمنح الحوافز لذلك. ويبقى التحدي الأكبر كيف ستوظف الدول المنتجة للنفط عوائدها القياسية هذه في هذه «الحفلة الأخيرة» كما يطلق عليها، كل الأمل ألا يكون فقط في خرسانة وأسواق مركزية وفنادق!