جثة المهدي بن بركة .. وأسئلة الحاضر والمستقبل

TT

تشغل المشهد السياسي المغربي في الوقت الراهن، قضيتان، إحداهما تطرح أسئلة المستقبل، والثانية تطرح أسئلة الماضي. الأولى تتعلق بالتشويش الذي خلقه احتمال انزلاق تاريخ إجراء الانتخابات، والثانية تتعلق بالخلخلة التي أحدثها الكشف عن وجود شهود أحياء لديهم بيانات عن اغتيال بن بركة.

لنبدأ بالثانية، بعد الكشف عن وجود شاهد «شاف كل حاجة»، لدى اختطاف وتعذيب الزعيم الوطني/ العالمي، الشهيد المهدي بن بركة، وقع تحركان جديدان في ملف تلك القضية. التحرك الأول تمثل في أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لم يسعه وقد وقع الكشف عن البيانات الجديدة، التي أدلى بها عضو سابق في المخابرات المغربية، أحمد البخاري، إلا أن يتولى المبادرة في اتجاهين. الأول تقديم شكوى إلى قاضي التحقيق لدى محكمة الاستئناف بالرباط لفتح تحقيق قضائي مع صاحب الاعترافات، والثاني مؤازرة عائلة بن بركة لتفعيل التحقيق القضائي في فرنسا.

وإذا سارت الأمور في منحى طبيعي، ومن ذلك تجديد جواز سفر المعني بالأمر المنتهية صلاحيته، فإن البخاري مدعو للمثول أمام قاضي التحقيق الفرنسي، جان بابتيست بارلو، يوم الأربعاء المقبل، لكن هذا العائق ـ جواز السفر ـ لن يحول دون مثول الشاهد أمام قاضي التحقيق المغربي، حينما تأخذ القضية مجراها على مستوى القضاء المغربي. هذا التحرك إذن يحيل على أسئلة تتعلق بالماضي، وهي بطبيعتها أسئلة تحفر بكيفية آلية، في عدة اتجاهات. وستكون لها ذيول قضائية وسياسية، داخلياً في المغرب، وخارجياً في فرنسا وربما أطراف أخرى.

يتحرك الملف الآن، بأوتوماتية لا راد لها، طليقاً ومنفلتاً عن أي اعتبارات تخص حزباً مشاركاً في الحكم، ليس في وسعه أن يأمر بتجديد جواز سفر، أو تخص طرفاً أجنبياً له أسراره الدفاعية المتعلقة بالموضوع، حيث اتضح الآن أن الثقل الأساسي في الموضوع هو في الرباط وليس في باريس، الملف يتحرك في فلكه منفلتا عن قوانين الجاذبية في السياسة الداخلية للمغرب، التي أوصلت إلى التناوب. الحزب الرئيسي في الحكومة لن يكون في وسعه إلا أن يجتاز المسار الذي أطلقته مبادرته، وأحزاب الكتلة لن يكون في وسعها إلا أن تتضامن مع حليفها، والمجتمع المدني لن يكون في وسعه إلا أن ينخرط في الديناميكية التي أطلقتها هذه المستجدات.

وبالنبش في كل ما ستثيره تحركات هذا الملف في فلكه هذا، سيتأكد أن ملف الاعتقال التعسفي في المغرب، لم ينته باعتراف الدولة بالخطأ الذي ارتكبته في حق المتضررين، ولا بصرفها للتعويضات المادية لأولئك. أي أن صفحة الماضي لم تطو نهائيا.

ويمكن أن يقال الآن، إن الاعتراف والتعويض، كانا حقاً للمتضررين، وواجباً على الدولة، وهما بذلك قرار سياسي تم استهلاك منافعه. المطروح الآن على الدولة والنخبة، هو التفاعل مع المستجدات، علما بأن الصورة التي يريد المغرب أن يقدم بها نفسه في المجتمع الدولي، هي الالتزام بالبند الوارد في اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، الرامية الى احترام حقوق الإنسان، كما هي معترف بها دولياً، خصوصاً أن ملف المهدي بن بركة، ملف مشترك بين القضاءين الفرنسي والمغربي. والأطوار التي سيدخل فيها ملف بن بركة بعد الآن، يجب أن تطيع مواصفات «المحاكمة العادلة»، كما كان الشأن على الأقل لدى محاكمة الفرنسيين المتحدرين من أصول مغاربية والمورطين في حادثة فندق اسني بمراكش.

ستحفر الأسئلة التي يطرحها ملف بن بركة، في مسارات، لا تعرف نهايتها، ويصعب تصور السقف الذي ستصله، ولمدة لا يعرف أمدها، ستتوازى معالجة قضية بن بركة، أمام القضاءين المغربي والفرنسي، وفي الحالتين ستكون هناك انعكاسات سياسية لا يمكن تصورها إلا بشكل عام. وستكون المسألة في ملك الرأي العام بالبلدين، تحت رحمة صحافة نهمة.

وهكذا، فإن الذين تحدثوا أحياناً بنوع من الاستخفاف عن «أحزاب تنتمي إلى الماضي»، مضى أوانها، ويجب أن تعطي المكان لما سمي بتسرع بـ «قوى المستقبل»، يجدون الآن أن حسابات الحاضر ملتصقة جداً بحسابات الماضي، الذي لا يمكن إلا التسليم بأنه ببساطة ماض لم ينته. وهذا ما يبرز رأس المال الذي تدخره أحزاب «الماضي» التي تنتصب طرفاً في قضية المهدي بن بركة، في شكلها الجديد. تلك الأحزاب التي دفعتها روحانية خاصة، للمساهمة في أن يتجنب المغرب السكتة القلبية. وفي هذا ـ على الأقل ـ ما يدل على أنه لا تمكن، أو على الأقل أن هذه المراهنة تفتقر إلى الجدية المطلوبة. في السياسة حينما تطرح أسئلة لا تكون هناك قط أجوبة قاطعة، لذا ينبغي الاكتفاء بالقول إن أسئلة غير مريحة قد شرع في طرحها، ولننصت إلى الأيام التي ستتولى إعطاء الجواب.

وأسئلة الماضي، غير محصورة في خانة واحدة، ولا يتعلق الأمر بجثة، بل كما يمكن القول على سبيل الاختصار، بكل ما مثلته في تاريخ المغرب الحديث «سنوات الجمر».

إلى جانب أسئلة الماضي، تمتزج كما قدمت في البداية، أسئلة تتعلق بالتشويش الذي خلقه هاجس تأجيل الانتخابات. يقول الدستور المغربي، إن مجلس النواب المقبل يجب أن يكون جاهزاً لعقد دورته الأولى «التي تبتدئ يوم الجمعة الثانية من شهر أكتوبر» الفصل 400، وهذا المجلس سيخلف المجلس الحالي الذي انتخب بمقتضى الفصل 37 الذي ينص على أن أعضاءه منتخبون «لمدة خمس سنوات، وتنتهي عضويتهم عند افتتاح دورة أكتوبر من السنة الخامسة التي تلي انتخاب المجلس»، أي في أكتوبر 2002، ولكي يحترم الدستور، يجب أن تكون دورة الخريف المقبل هي آخر دورة لمجلس النواب الحالي.

لمع في سماء السياسة المغربية «اجتهاد» سبق أن تطرقنا له منذ حوالي ثلاثة أشهر، يريد أن يسوغ تمديد المجلس الحالي، بحجة إعداد أفضل للخريطة السياسية المقبلة. وهذا التمديد أو التأجيل الخفيف، لموعد الانتخابات، خلق لغطا تطيرت منه القوى الديمقراطية، ووصل الأمر إلى تسجيل سبق لسان ورد في تصريح للوزير الأول. وفرس الرهان في هذه الظروف، هو الضغط على وزارة الداخلية، ولا يوجد غيرها، من أجل أن تكف عن التسويف المتكرر لتقديم الصيغة النهائية لمدونة الانتخابات، بما في ذلك تقطيع الدوائر الانتخابية، لكي لا تكون قواعد اللعبة مبنية على المباغتة، كما كان الأمر في السابق.

وفي غمرة هذه التكهنات والمواقف والمراهنات، تعكس الصحافة صورة مضطربة للمشهد السياسي، بسبب أحداث يعرفها المشهد الحزبي المغربي، خاصة بمناسبة مؤتمرات تعقدها أحزاب الحكومة استعدادا للانتخابات.

والواقع أن المشهد الحزبي في المغرب يشهد حركية فائقة، بفضل أن الأحزاب المغربية، أصبحت لأول مرة في تاريخها، تدور دورانا عاديا، بعد فترة طويلة كانت فيها ضحية الملاحقة، إذ كانت في أحسن الأحوال، أحزابا مسموحا بها، ومسموحا لها بأن تشارك في المؤسسات، لكن غير مسموح لها بأن تكون لها هيمنة في تلك المؤسسات. ولمدة طويلة كان الحساب الرئيسي هو ألا يكون لحزبي الاستقلال والاتحاد وجود راجح في البرلمان، يماثل الوزن الذي تمثله الأحزاب الديمقراطية في المجتمع.

إن الاختلافات التي تعرف صفوف هذه الأحزاب هي مظاهر عادية كان يكبتها في ما مضى أن الحزب كان ملاحقاً، وأن اضعافه يخدم المخططات المضادة للحركة الديمقراطية، بينما أصبح الاختلاف اليوم عنصر قوة لأنه يؤدي إلى الوضوح في الخط السياسي، ويزيد من التفاف الجمهور حول برامج والتزامات يتم التعاقد بشأنها مع المجتمع.

إن الآليات التي تضمنها دستور 1992، خصوصاً بصدد تنصيب الحكومة من لدن مجلس النواب، كرست نهائيا قيام الممارسة السياسية في المغرب على أساس الخريطة السياسية القائمة في البرلمان، بحكم أن الحكومة ينبغي أن تنبثق من تصويت، يعطي الأغلبية للتشكيلة الحكومية المقترحة. وهذا في حد ذاته، جعل دور الحزب في المنظومة السياسية المغربية، ينتقل من دور التعبير عن الاحتجاج، إلى تنظيم المشاركة في تسيير الشأن العام. وهكذا، فإن التسابق اليوم ليس على المنابر، بل على المواقع التي تؤمن للمناضل الحزبي موقعاً في الحزب، أملا في المشاركة، وهذا من طبيعته أن يفرز تسابقاً، وبالتالي أن يخلق مستائين.

رددت الصحافة أيضاً أصداء سجال يقع أحياناً بين الاستقلال والاتحاد، وأعطت لبعض الاختلافات، وحتى الخلافات، التي برزت على السطح أحياناً، حجماً أكبر من حقيقتها. وهذا السجال بدوره طبيعي، لأن الأمر يتعلق بحزبين يخاطبان نفس الكتلة الناخبة، ولهما ماض مشترك، والتقاءات أساسية. وقد ظهر مثلا أنه في قضية رسالة الفقيه البصري، وقف حزب الاستقلال، إلى جانب الاتحاد، مسجلاً في نفس الوقت بصماته الخاصة، إذ انتقد الرسالة لأنها مشوشة، وانتقد الحكومة لإقدامها على منع الصحف، وانتقد الصحف المعنية لأنها تعاملت بطريقة غير بناءة مع الموضوع الذي طرحته الرسالة.

إن المسلسل الحالي، انطلق بمبادرة مشتركة بين الحزبين، لدى الملك الراحل، في أكتوبر 1991، وظهر أن تلك المبادرة قد أحرزت تجاوبا عارما في المجتمع، وأدت إلى التوافق المرتب، الذي اكتنفته حسابات معقدة، وظهر أنه واعد، ومن شأنه أن يعمر. وذلك بالذات لأنه غير إقصائي، ومن شأنه أن يؤمن أرضية تلاق من أجل بناء المستقبل بطمأنينة. وجاءت الظروف الحالية، وقوامها الالتفاف حول مؤسسة العرش، في غمرة فتح صفحة جديدة من تاريخ البلاد لتوسع الطريق إلى المستقبل.

وفي غمرة هذا أتاحت ظروف المسلسل، لكل ذي رأي، شروطاً ملائمة للمشاركة، في تدبير الشأن العام. ومن الطبيعي أن الأحزاب الديمقراطية، لا تسمح أوعيتها التنظيمية، باستقبال كل الراغبين في المشاركة، ولهذا فإن فائضا له حجم مهم، لا بد أن يبحث عن مواقع له في حظيرة تنظيمات جديدة. لكن يجب أن يتم ذلك في إطار بعيد عن صنع الأحزاب، وعن عقلية المباغتة. أي لا سبيل إلى بناء متين إلا بقواعد لعبة نظيفة ومعروفة مسبقاً ومسلم بها، لكي تكون للمؤسسات القوة التي تجعلها سنداً يركن إليه النظام الذي ارتضاه المغاربة لتنظيم حياتهم.

وفي غمرة ذلك، لا يخلو المشهد ممن يتحرك ليرشح نفسه لدور ما في جو الخلط والاجتهادات الفردية. وفي سياق المسلسل الحالي، لا مكان لاجتهادات تعود بنا إلى المراحل التي طويناها، أو لا يتم عرضها من خلال القنوات التي أتى بها دستور 1992، فلا مكان في «المغرب الممكن» الذي توافقنا عليه، لفرد عبقري أو نبي مؤهل ليجسم الإنقاذ. فعلى كل من له برامج واقتراحات، أن ينتظم في حزب، وأن يعرض مقترحاته على الناخبين، ليقولوا كلمتهم بشأنها.

إن المغرب كان سيئ الحظ حينما لم تتوفق نخبته، في الحفاظ على روحانية التحالف ضد الاستعمار، ولم تنجح في تحويل ذلك التحالف إلى أداة لبناء المغرب العصري الذي حلم به المغاربة منذ 1908. لعل هذه هي الخلاصة التي يمكن أن ترسم تلك المرحلة القلقة التي مر بها المغرب، والتي انتهت بالدخول في مسلسل جديد بدستور 1992.