القمة الهندية ـ الباكستانية.. منعطف تاريخي

TT

تبادلت باكستان والهند اطلاق سراح مئات السجناء تعبيرا عن حسن النية وتمهيدا لقمة رئيسيهما المقرر عقدها في اغرا (الهند) للفترة (14 ـ 16) تموز (يوليو) الجاري. ولا غرو، ان تأتي بوادر حسن النية والاحتفاء باللقاء، فما زالت الدولتان الجارتان نهبا للكراهية والعداء، وبعد خمسة عقود ونيف ازدحمت بالحروب والقتال، لم تستطع الدولتان التوأمان ترسيم حدودهما الجغرافية وعلاقتهما السياسية. في الوقت الذي قام فيه الصراع الهندي ـ الباكستاني، ولم يزل قائما، حول محاور وابعاد جغرافية ـ سياسية، غذتها عداوات ونزاعات اقليمية ودولية ابان الحرب الباردة، حيث مثلت كشمير، بؤرة النزاع الهندي ـ الباكستاني، احدى جبهاتها المتقدمة. ودارت الايام، وتلاشى الموقع الاستراتيجي لباكستان الذي كانت تنظر اليه الولايات المتحدة مانعا تجاه تقدم السوفيات نحو منابع النفط ومياه الخليج الدافئة. وسقطت شعارات «ان وجود باكستان ضعيفة يخدم مصالح الاتحاد السوفياتي فقط» و«ان الحفاظ على باكستان قوية يساعد على امن واستقرار العالم الحر».

وفي المقابل، سارعت نيودلهي، وبين يديها محفزات وتسهيلات عديدة، وارتبطت بواشنطن باتفاقيات وتحالفات استراتيجية، في مقدمتها مواجهة الاصولية الاسلامية «الخطر الاكبر» بعد سقوط الشيوعية.

وساهم هذا التحول وانعطافة واشنطن الجديدة صوب نيودلهي في تباعد الشقة بين الهند وباكستان وانكفائهما الى اتجاهين ونزعتين مختلفتين متصادمتين. في الهند، ارتفع مد الهندوسية وتشددها بوصول حزب بهارتيا جاناتا، تحت شعار «كل هندي هندوسي» الى الحكم. وتعاظمت الاصولية الاسلامية في باكستان.

ويذكر ان واشنطن كانت قد اعترفت بانقلاب الجنرال برويز مشرف وحكومته العسكرية باعتباره بديلا وحيدا عن صعود الجماعات الاصولية للحكم.

أخطر منطقة في العالم وفي اثر دخول طالبان كابل، ثم استحكام هيمنتها في افغانستان، صارت الاخيرة نموذجا يستهوي الحركات والجماعات الاصولية في باكستان وما حولها من دول المنطقة. وهكذا، باتت الاصولية، وما يترتب عليها من تطرف وعنف وارهاب، عبئا يلح الى حد القلق على اهتمامات وتوجهات الدول الكبرى، من الصين الى الولايات المتحدة مرورا بروسيا، وبدافع هذا العبء القلق اجمعت الدول الثلاث، رغم اختلاف وجهاتها وتباين سياساتها واغراضها، على ان المنطقة ـ منطقة جنوب آسيا ـ باتت الاخطر والاكثر تفجرا في العالم، لا سيما بعد تفجيراتها النووية عام 1998.

ومن هنا، وحسب الرأي القائل: ان الولايات المتحدة تتجنب المساهمة والمشاركة في حل وتسوية النزاعات الاقليمية ما لم تتسع دائرة حريق الاخيرة ويستطير شررها صوب قواعدها ومصالحها الدولية. اذ ان مقتل رهينتين وتفجير سفارتين وتدمير مدمرة اميركية دقت اجراس خطر انذرت واشنطن فدفعتها، وبتعجيل تصاعدي، الى ممارسة ضغوط متزايدة على كل من باكستان والهند. بدأتها بالهند باعتبارها الكفة الراجحة في ميزان القوة الاقليمية، فمنذ زيارة الرئيس الاميركي السابق بيل كلينتون للهند ربيع 2000 تتصاعد نبرات رسالة واشنطن تؤكد على ان الهند لا يمكنها ان تتمتع بدور اقليمي ومكانة دولية تتناسب وامكانياتها البشرية والاقتصادية والعسكرية ما لم تقم بتسوية الازمة في كشمير تسوية سلمية.

وتهدف واشنطن من وراء ضغوطها على نيودلهي وحثها على انهاء القطيعة والعداء مع اسلام اباد الى تحقيق امرين اثنين: يكمن الاول، وكما تعتقد ادارة الرئيس جورج بوش، في ان الهند هي الدولة الوحيدة في المنطقة بمقدورها ان تساهم وتشارك بقوة وفاعلية في احتواء الصين ومواجهة تمدد نفوذها في آسيا.

تشتبك الدولتان ـ الهند والصين ـ بنزاعات وخلافات حدودية خاضتا بسببها حربا ضروسا عام 1962. وما زالت الهند تدعي ان الصين تحتل 50 ألف كيلومتر مربع من اراضيها، بما فيها خمس الاراضي الكشميرية. ويتعلق الامر الثاني بباكستان، على اساس ان الاخيرة موحدة ومستقرة يكون في صالح امن الهند واستقرارها. ولعل في هذا اشارة واضحة الى المخاوف المتزايدة من تكرار تجربة ايران وافغانستان في باكستان. وبين عامي 1995 و2000 تدرب وقاتل اكثر من 100 ألف اصولي باكستاني في ميادين افغانستان وجبهاتها الداخلية.

وقبل الضغوط الاميركية، تقف الهند وباكستان على اعتاب مرحلة جديدة ونظام عالمي جديد تراجعت فيه اهمية الجغرافيا ـ السياسية امام تصاعد مد القوة الاقتصادية واسواقها التجارية. وبالتأكيد لم يعد الرئيسان ـ الهندي والباكستاني ـ بحاجة الى قليل او كثير من جهد في حسابات ومكاشفات حول النزف الاقتصادي والدمار الاجتماعي والسياسي جراء الحروب التقليدية ومن ثم الردع النووي.

ماء كشمير صحيح ان في كشمير مصادر اقتصادية، لكن اهمها المائية، فمن قلب الهملايا تنبع خمسة انهار رئيسية تغذي معظم دول المنطقة، الامر الذي يصعب معه الحل الطرفي ـ الاحادي لصالح هذه الدولة او تلك.

ومثلما تتفرع انهار كشمير وتختلف باتجاهاتها تختلف اغلبية كشمير المسلمة واقليتها الهندوسية في ولائها للهند وباكستان. وبموجب هذا الولاء واختلافه تتبادل هاتان الدولتان الرفض لعملية ضم كشمير لكل منهما على انفراد ويرفض الجانبان انفصال كشمير واستقلالها.

واذا ما اضفنا بعد الوحدة والسيادة والتمسك بهما الى حد التقديس بكشمير تتعمق وتتشدد جدلية الرفض المتبادل. فبينما ترى نيودلهي في الانفصال السكين التي تجري في جسد الهند الحي، كما ترى فيه نهاية لاتحاد الهند المؤلف من مئات الديانات والقوميات. تتساءل اسلام اباد: اذا كان قيام باكستان وطنا للمسلمين في شبه القارة الهندية فلماذا يتم تقسيم المسلمين في كشمير بين الهند وباكستان؟.

وهكذا دواليك، تتبارى الدولتان المنفصلتان في جدال بينزطي، وقعت محادثات واتفاقات ثنائية عديدة في اسره كما وقعت حروب كبيرة بسببه. وهنا يبرز تساؤل ملح هل تخرج قمة اغرا من اسر هذه الجدلية وخلفيتها الايديولوجية؟ بالتأكيد ستختلف هذه القمة وتتميز عن سابقاتها بجملة امور ستضفي عليها طابعا واتجاها ايجابيا. فالى جانب ركام الماضي ودروسه الصعبة، تأتي تطورات الاوضاع الاخيرة في المنطقة لتضع الدولتين الجارتين وقمتهما المرتقبة عند منعطف تاريخي صعب يرجع بهما الى عام الانفصال والطلاق بين المؤتمر الهندي والرابطة الاسلامية، وقد تم على اساس «لا تنسوا الفضل بينكم». و«انتم منا ونحن منكم». ويلتقي الرئيس مشرف اثناء زيارته للهند بابناء عمومته وقرابته لاول مرة منذ هاجر منها عام 1947. وهنا تجدر الاشارة الى ان هناك اكثر من 150 مليون مسلم هندي، اكثر من مجموع سكان باكستان، وقد احسن الرئيس مشرف عندما وضع كشمير على رأس جدول اعماله قائلا: منها بدأنا واليها نعود، منها بدأت وانطلقت الحروب والقطيعة والعداء واليها وفيها يتم التعاون والسلام.

وبهذا تختلف قمة اغرا عن المحادثات والاتفاقيات السابقة والتي تركت كشمير سائبة مسألة حدودية خلافية.

مصالحة منتصف الطريق وثمة اختلاف وامتياز جديد تتميز به قمة اغرا، انها تأتي في ظل «الردع النووي»، مما يعني ووفقا للنظرية العسكرية في استراتيجية الردع النووي، ان الدولتين ـ الهند وباكستان ـ قد خرجتا من مسلسل الحروب التقليدية وغيرها.

وفي ظل هذا الامتياز وذاك الاختلاف تنتشر وتتسع ملامح وبوادر حسن النية متوجة بالعزم والتصميم على ايجاد حل وسط وتسوية سلمية بل ولادة جديدة للدولتين التوأمين. ولعل مصالح الشعبين ومحنتهما في كشمير تحدو بالرئيسين الهندي والباكستاني وتحثهما الى المصالحة عند منتصف الطريق في قمة اغرا.

* كاتب عراقي مقيم في بريطانيا