اتفاق الدوحة: حل نزاع أم بداية قيام الدولة اللبنانية الحديثة؟

TT

الاسس (أو التسوية) الجديدة التي اخرجت لبنان من محنته، ليست هي ذاتها التي تضمنها «اتفاق الطائف» عام 1989. ولا الظروف الدولية والاقليمية، هي ذاتها. ولا تلك التي وضعت حدا لـ«ثورة 1958». ولكن اوجه التشابة بين كل تلك التسويات التاريخية ملموسة: وابرزها، في نظرنا، ثلاثة: اولا: صيغة «لا غالب ولا مغلوب»، وثانيا: وصول الافرقاء اللبنانيين المتنازعين امام طريق مسدود، سياسيا وميدانيا. وثالثا: توفر ظروف اقليمية ودولية مشجعة او مؤيدة لأنهاء النزاع في لبنان، لأسباب مختلفة، وربما متضاربة.

فليس من قبيل المصادفة، ان يذاع خبر محادثات السلام بين سوريا واسرائيل، في اليوم ذاته الذي تم فيه توقيع اتفاق الدوحة بين الافرقاء اللبنانيين، وان «تسهل» الاطراف العربية والاقليمية التي قيل الكثير عن تدخلها في النزاع الداخلي اللبناني، هذه التسوية. وان يحظى هذا الاتفاق،ايضا، بترحيب الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا والامم المتحدة.

لقد تلاقت كل نزاعات المنطقة، مؤخرا، في لبنان، بسبب ارتباط هذه النزاعات الدولية والاقليمية، بالنزاع على الحكم بين الاحزاب والقوى السياسية اللبنانية. فما الذي حدث حتى انقشعت كل الغمائم فجأة، عن سماء المشرق، وراحت اضواء الانفتاح والسلام تبزغ من كل الآفاق؟

ابتداء بالاعلان عن محادثات السلام بين سوريا واسرائيل، ومرورا بالتهدئة والهدنة بين حماس واسرائيل في غزة، وبشبه سيطرة قوات الامن العراقية على اجزاء كبيرة من العراق، وتأكيد الرئيس الاميركي على قيام دولة فلسطينية قبل نهاية السنة، وانتهاء باستتباب نوع من الاستقرار السياسي في باكستان، مؤثر، ايجابيا، على مستقبل افغانستان، وبانفراج ملموس في التوترات بين واشنطن وايران. اولا تسمح كل هذه الظواهر بالاعتقاد بان منطقة الشرق الاوسط، هي على ابواب مرحلة جديدة، قد تؤدي الى السلام المنشود لها منذ اجيال.

نقول «على ابواب» مرحلة، لأن هذه المؤشرات الايجابية، السلمية منها او الاستقرارية، لا تعني ان السلام بات وشيكا او حتى قريبا. فما تراكم من نزاعات ومشاكل وضحايا

واحقاد، بين دول المنطقة بل داخل معظم دولها، لن تمحوه اتفاقات ومعاهدات وتسويات سياسية، حتى ولو اخمدت بعض نيرانه، او حالت دون امتدادها. والشعوب الغربية التي تنعم، اليوم، بالاستقرار السياسي والاجتماعي الذي تفتقده معظم الدول العربية والاسلامية، مرت، هي ايضا، بعشرات بل بمئات السنين من الحروب الاقليمية والداخلية، قبل ان تعثر على القواعد الوطنية والسياسية والاجتماعية التي وفرت لها الاستقرار والامن والسلام. غير ان الفرق بين القرون الماضية واليوم، هو ان منطقة الشرق الاوسط، باتت، بسبب النفط والحرب على الارهاب العالمي الجديد المنطلق منها، منطقة مصالح استراتيجية حيوية، بالنسبة للدول الكبرى، بل لكل دول العالم.ولأننا نعيش في عصر العولمة اي عصر ترابط مصالح ومصائر كل الشعوب، بوجه الاخطار التي تهدد كل البشرية، النووية منها والبيئية.

ان «فك النزاع» بين الزعماء والاحزاب في لبنان، هي «قطبة» صغيرة في ثوب المنطقة التي تتنازع عليها الدول الكبرى والدول الاقليمية النافذة. ولكنها قطبة كان من شأن المزق الذي رتأته، لو توسع، ان يتحول الى نزاع مذهبي، يعود بالمنطقة اربعة عشر قرنا الى الوراء. ومن هنا، يتحمل اللبنانيون مسؤولية كبيرة ليحولوا دون تمزق ثوبهم الميثاقي الوطني، من جديد، فتتسرب منه كل النزاعات الطائفية والمذهبية، بل والدولية، الى كل المنطقة، بعد ان تقضي على وطنهم.

لقد قيل الكثير تعليقا وتقييما لهذا الاتفاق «التاريخي» الذي تحقق في الدوحة. وهو اتفاق يستحق القادة اللبنانيون عليه التهنئة كما تستحق الدول العربية التي سهلته، الشكر. وليس مهما، من «انتصر» او من «تنازل»، طالما ان النتائج الاولى لهذا الاتفاق كانت تنفس اللبنانيين الصعداء، وعودة المؤسسات الدستورية اللبنانية الى عملها، وعودة الحياة الاقتصادية والاجتماعية في لبنان، الى دورانها الطبيعي.

قد ينجح هذا الاتفاق في اعادة تكوين الديمقراطية التوافقية اللبنانية على اسس اكثر وضوحا وانسجاما مع التقاليد الدستورية. وقد يقود ـ اذا توفرت فرص اقليمية مؤاتية ـ الى قيام دولة لبنانية مدنية قوية وعادلة، قادرة على تحقيق اماني كل اللبنانيين، عن طريق غير طريق توزيع الحصص على الطوائف (او بالاحرى على زعماء الطوائف)، فيستغنون عن الاستقواء على بعضهم البعض، «بالاستنجاد بالخارج».

هناك «جراح» لا بد من التعالي عليها. وهناك شعارات كبيرة وخطيرة، لا بد من اعادة النظر فيها. وهناك، ايضا وخاصة، اسرائيل، التي لم «تغلق حساباتها» في لبنان، مع حزب الله وسوريا وايران.