في الحرية

TT

ينشغل المثقفون المصريون هذه الأيام بالحرية، والبعض يعتقد ان مصر تنعم بحرية واسعة، خاصة في مجال التعبير، والبعض ـ على العكس من ذلك تماماً ـ يعتقد أن مصر تفتقد الى الحرية. الفريق الأول يشير الى المقالات والآراء الناقدة، التي تنشر في الصحف القومية منها والمعارضة، فضلا عن الصحف العديدة التي يصدرها أشخاص أو جماعات التفافاً حول قانون يضيق على اصدار الصحف تقييداً شديداً. والفريق الثاني يحاول أن يكشف، بشيء من الحياء والتردد، ان الحرية المشار إليها ليست إلا وهماً من الأوهام بدليل ان حرية اصدار الصحف مضيق عليها الى أقصى حد، حيث يشترط القانون شروطاً تعجيزية، وهو قانون قصد به قفل الباب أمام أية محاولات لاصدار الصحف خارج دائرة الأحزاب، التي وافقت عليها الدولة والتي ما زالت ـ لأسباب عديدة ـ هامشية بالنسبة للحزب الحاكم. وهناك من يستريب في الصحف العديدة التي صدرت في السنوات الخمس الماضية ومنها جريدة «النبأ» التي أحدثت بلبلة وأوشكت أن تثير فتنة طائفية في المجتمع المصري، الذي ابتعد كثيراً عن ميوله المدنية القديمة، وبالتالي ازداد الانقسام بين المسيحيين والمسلمين، على الرغم من أن جهاز الدولة يجتهد اجتهاداً هيناً للعودة الى ذلك الميل القديم.

ويبدو ان الجماعات أو الطوائف تستريب في بعضها بعضا، وربما كانت ثورة المسيحيين عقب نشر جريدة «النبأ» لموضوع الراهب الفاسق، بسبب الاعتقاد بأن الصحيفة ما كانت لتجرؤ على نشر مثل هذا الموضوع ما لم تكن مستندة الى قوة فتنفذه، وان هذه القوة كانت وراء القفز على قانون اصدار الصحف البالغ التقييد، وعلى أية حال فما زال الناس يعتقدون ان الحكومة وراء كل تصرف، سواء في مجال الاعلام أو في غيره من المجالات، وهم ـ في ما يبدو ـ غير مصدقين بأن ما ينشر هنا أو هناك ليس موجهاً من سلطة الدولة.

ولعله لهذا السبب ايضا كان على الدولة أن تبين براءتها من هذا الاتهام، بحيث سارعت كل المؤسسات ذات الصلة باستنكار ما فعلته جريدة «النبأ».

وموضوع النشر ـ على أية حال ـ معقد في مصر، فمازال هناك نظر بالغ الغرابة يرى ان ملكية الدولة للجهاز الاعلامي كله، وفي مقدمة ذلك التلفزيون، شيء مقدس لا ينبغي أن يقترب منه أحد، وقد أعلن وزير الاعلام المصري في حماسة زائدة ان الاعلام المصري ليس للبيع، وكأن هيمنة جهاز الحكم على الاعلام لا تشوبها شائبة وانها في الواقع تحمي المجتمع المصري من عبث العابثين، بينما يرى الكثير من الناقدين ان هذا الاعلام يقوم بتشويهات عديدة.

وبسبب النقد المتواصل قام الجهاز الاعلامي المصري ببعض التعديلات ـ الشكلية ـ مثل السماح لعدة شركات خاصة بانشاء محطات للبث التلفزيوني، فضلا عن بعض البرامج التلفزيونية، التي صارت تتناول بشيء من النقد قضايا فكرية واجتماعية، وقد شهدت هذا الاسبوع برنامجاً للحوار كان موضوعه الحرية وقيلت فيه آراء موضوعية بذل أصحابها جهداً كبيراً لكي لا يثيروا غضب السلطات، وكل هذا أمور متصلة بالأسلوب الذي تلتزمه السياسة الحالية، وهو التهرب من الاصلاح الجوهري باصلاحات ترقيعية وجزئية لا تغير من واقع الهيمنة الفعلية على كل شيء مثل اسناد ادارة الانتخابات الى القضاة ومثل الحث على تنفيذ احكام القضاء، خاصة تلك الاحكام الصادرة ببطلان انتخاب بعض اعضاء البرلمان ـ ومنهم وزراء ـ هذا الى جانب محاكمات الفساد لبعض كبار المسؤولين السابقين، ومع ذلك فلم يقترب أحد من الاصلاح السياسي الشامل، بدءاً من وضع دستور جديد بواسطة لجنة منتخبة الى اقامة نظام برلماني حقيقي يتم فيه تداول السلطة وفقاً لانتخابات صادقة، الى حرية اصدار الصحف، وإلغاء قوانين الطوارئ وتأكيد قدسية حقوق الانسان وفي مقدمتها حريته.

والواقع ان تاريخ المجتمع المصري الحديث هو المحاولات الدؤوبة للتحرير من قيود عديدة، ومع ان هذا المجتمع لا يختلف عن المجتمعات الأخرى، بما في ذلك الدول الأوروبية والغربية بشكل عام، في السعي نحو الحرية، إلا ان حظ مصر السيئ أنها تأخرت كثيراً في احراز بعض التقدم نحو الحرية، وكانت ما ان تقترب من تحقيق انتصار حتى تنتكس وترجع الى ما هو أسوأ مما كان، والى عهد قريب كانت السخرة والجلد شيئاً عادياً، ومن يقرأ قصيدة الشاعر «حافظ ابراهيم» الذي كان يدعى بشاعر النيل، التي قالها في هجو الاحتلال البريطاني، وكان قد تحقق شيء من الازدهار الاقتصادي، يعجب لحالته الشعورية المثقلة بالاحساس بالظلم قديماً وحديثاً، يقول حافظ ابراهيم:

لقد كان فينا الظلم فوضى فهذبت حواشيه حتى بات ظلما منظما أعد عهد اسماعيل جلدا وسخرة فاني رأيت الحق أنكى وآلما والاحساس بالافتقار الى الحرية يتزايد كل يوم على الرغم من جوقات النفاق العديدة التي تعزف على لحن عجيب، هو الزعم بتوافر الحرية، بل وزيادتها لدرجة «الانفلات» على حد تعبير أحد الاساتذة المصريين، بل هناك من الصحافيين انفسهم، من طالب بوضع قانون يقمع أي صحيفة تخرج عن «الثوابت»، ومن الطريف ان أحد المشاركين في ندوة الحوار السالفة الذكر تساءل عن هذه الثوابت وكيف يمكن تحديدها، وهو محق في ذلك بغير شك.

واشتكى متحدث مرموق آخر من ان الثقافة السائدة محافظة، وكان يريد ان يقول جامدة ومتخلفة وانها تلقي بثقلها على حرية التفكير التي لا يمكن لمجتمع ان يتقدم ويصلح حاله بدونها، وهذا صحيح الى حد كبير ففكرة الطاعة والاتباع مسيطرة بشكل ظاهر على عقول الناس، بحيث تزداد قيمة الانسان كلما كان مطيعاً لتفسير نص مقدس قد يكون خاطئاً في الكثير من الاحيان، ثم تنتقل هذه الطاعة الى الرئيس أو الشخص الذي يأتمر به الفرد المصري سواء في العمل أو في الريادة الدينية أو الثقافية، وعلى هذا الفرد ان يتوقف عن التفكير الحر خوفاً من البدعة التي تتخفى وراء هذا التفكير وتستدرجه الى الضلالة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

تنعكس سلوكيات الطاعة حتى في الصور التي يراها الناس للوزراء وكبار الشخصيات في التلفزيون في حفلات الاستقبال المختلفة حيث يقف الشخص ضاماً يديه الى بطنه تعبيراً عن الطاعة والخضوع، وكثيراً ما تشترك النظرة المتطامنة في تأكيد هذه الطاعة، ويبدو الجسم مشيراً في «لغة الجسم» الى خضوعه وطاعته، وربما كان هذا الشخص يعتقد ان وقوفه الامتثالي هذا «أدباً» أو تواضعاً، ومن الصعب بالطبع أن يتبين دلالة هذا الخضوع على كل مجالات النشاط الانساني بما في ذلك التفكير الحر وتحديد النظر ومراجعة الكثير من المسلمات التي قد لا تخلو من الخطأ أو التدليس أحياناً.

ولذلك يرى المثقفون المصريون الذين يشعرون بغياب الحرية في مصر، ان احدى أهم العقبات أمام الحرية ليست السلطة الحاكمة فقط، أو ليس الميل للافراط في السلطة كما تحدثت سابقاً في هذا المكان، بل هو الثقافة السائدة، ويطالبون باعادة النظر في أساليب التعليم والتربية التي تقوم هي الأخرى على التلقين مما لا يدع فرصة أمام التلميذ الصغير في المدرسة الابتدائية، ولا حتى خريج الجامعة، لأن يفكر في الموضوعات التي تلقى إليه، ويعرف تماماً ان طريق النجاح هو أن يرددها كما هي، فالعداء للحرية يتربى عليه الانسان منذ الطفولة حتى رجولته، وربما كان هذا صحيحاً.

والحديث عن الحرية ـ رغم كثرته ـ لم يتعد العبارات العارضة. وكلما نوقشت من الناحية الفلسفية، تجد كلاماً عظيماً عند كاتب مثل عبد الرحمن الكواكبي أو جمال الدين الافغاني أو محمد عبده، ولكن مفهوم الحرية كقيمة من القيم أو فكرة فلسفية لم تعالج إلا قليلا في الفكر العربي المعاصر، وقلما تجد شخصاً عادياً مدركاً بشكل واع ان تاريخ حياة الجنس البشري منذ الخلق الأول حتى اليوم هو محاولة التحرر من قيد الضرورات المحيطة به من كل جانب، الضرورات التي يفرضها العالم الطبيعي الذي يطوقه حتى في داخل تكوينه، الى الضرورات الاجتماعية التي تضع قيوداً على التفكير، بل والحياة تضيق أحياناً حتى توشك ان تعدم انسانية الانسان، وتنفرج أحياناً حتى يلامس نعيم الحرية وجناتها.

والحرية حركة مستمرة ضد المعوقات أو الضرورات التي يزخر بها الكون والمجتمع البشري، ومن الطبيعي ان تكون ضد المحافظة أو التقاليد وان تكون هادفة وبانية، وبالحرية، التي ادركت بعض جوانبها المجتمعات المتقدمة، امكن اختراق بعض الضرورات في كل ما نستعمله من ادوات ابتداء من الانارة حتى الوصول الى القمر واجتياز الفضاءات واطالة متوسط عمر الانسان، ولكن ثقافة المحافظة والجمود والخوف من التجديد والمراجعة هي التي تقف بمجتمعاتها عند حدودها القائمة، وغالباً ما تصبح الحرية مجازفة لا تؤمن عواقبها.

فهل مناقشة الحرية في المجتمع المصري بداية لوعي جديد، وحاجة ماسة للشعب تساعده على ان يواجه التحديات الهائلة التي تعبث به وتهين كرامته، سواء من جانب الحركة الصهيونية التي لم تعد تستطيع اخفاء وجهها الفاشي الخطير، أو من جانب قوى داخلية أو خارجية قصيرة النظر تبحث عن منافع آجلة وتعجز عن ان تمد بصرها قليلا الى المستقبل واحتمالاته الباهظة؟

المتتبع لما يدور في هذا المجتمع يلاحظ أن موضوع الحرية اصبح مطروحاً، وعلى الرغم من المعوقات العديدة فان هذه البدايات قد تكون مؤشراً على تغير حقيقي قادم.