سياسات نهاية الإدارة الأمريكية!

TT

كان المشهد الذي شهدناه في الشرق الأوسط طوال الأسبوع الماضي غريبا للغاية حيث بدت نتيجة الأحداث معاكسة تماما لكل التوقعات التي جرت بشأنها. فمنذ أسابيع عدة جرت توقعات كثيرة حول ما يمكن أن يحدث أثناء انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي في شرم الشيخ، وكان أهم ما في هذه التوقعات هي انعقاد مؤتمر قمة اختلف كثيرون على من سيحضرها، ولكنهم اتفقوا على أنها لن تنعقد فقط وتضم أطرافا أساسية في المنطقة، بل أنها سوف تكون خطوة هامة على طريق التسوية. وساعتها قيل إن المناسبة سوف يتم استغلالها لكى تشكل نقطة انطلاق جديدة للعلاقات المصرية ـ الأمريكية التي طالها التوتر لفترة طويلة لكي تتحسن إلى الدرجة التي تسمح للرئيس المصري بزيارة إلى واشنطن لم يفعلها منذ وقت طويل. وكانت قد بدأت أنباء إيجابية تتسرب بشأن المباحثات الفلسطينية ـ الإسرائيلية كما ظهر من الحديث الذي أجرته كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية مع الدكتور مأمون فندي هنا في صحيفة «الشرق الأوسط» حيث كانت نغمة التفاؤل غالبة، والثقة في أن الدولة الفلسطينية قادمة لا يشوبها تحفظات. ولكن الأمور جرت بعد ذلك في عكس هذا الاتجاه تماما، فلا اجتماع انعقد، ولا قمة جاءت من أى نوع، ولم تكن هناك خطوة على طريق التسوية من أى نوع؛ وعلى العكس فلم تكن الساحة اللبنانية محتقنة ودامية فقط، بل أن زيارة بوش إلى إسرائيل وخطابه فيها بمناسبة مرور ستين عاما على قيامها كان معكرا لمياه كانت عكرة من الأصل خلال السنوات التي مضت من إدارة الرئيس الأمريكي.

وفي الواقع أن ما فعله جورج بوش في إسرائيل كان مناهضا تماما لكل احتمالات التسوية، فلم يكن لديه حساسية من أى نوع إلى أن الاحتفال على ناحية إسرائيل كان يقابله جنازة حارة في ذكرى النكبة على الجانب الفلسطيني والعربي الآخر. ومنذ فترة ليست بعيدة فإن أصواتا أوروبية كثيرة، بما فيها رؤساء دول ووزارات نادت بوقف الاحتفالات بانتصارات الحرب العالمية الثانية لأنه لا يجوز الاحتفال بانتصار طرف بينما الطرف «المهزوم» ـ ألمانيا وإيطاليا ـ قد بات جزءا من الأسرة الأوروبية. ومن الناحية العملية فإن المنتصر والمهزوم قد بات جزءا من الأسرة الدولية، والعولمة، وعمليات التفاعل الحضاري والثقافي التي تنتج حكمة أن يعاد للتاريخ ما أصبح تاريخا.

وبالطبع فإن المعادلة في الشرق الأوسط ليست مشابهة للمعادلة الأوروبية لا من الناحية السياسية ولا من الناحية الأخلاقية، ولكن تطبيق الدرس الأوروبي حتى ولو كان معدلا ومخففا كان سيكون مفيدا للغاية في ساحة ملتهبة بالمشاعر الغاضبة ومفعمة بالأحاسيس المريرة. ولكن مثل هذا النوع من الحكمة ليس شائعا كثيرا في منطقتنا، وهو بالتأكيد ليس من شيم الرئيس الأمريكي الذي ربط حياته السياسية في البيت الأبيض بمجموعة من الآيديولوجيين المعروفين بالمحافظين الجدد الذين يرون في الإخضاع والإجبار نوعا من الطهارة الفكرية. ويبدو أن جورج بوش كان قد اتخذ قرارا قبل مجيئه إلى المنطقة بالعودة مرة أخرى إلى جذوره الآيديولوجية مرة أخرى بعد أن حاول إقناع كثيرين انه غادرها خلال العامين الأخيرين بسبب الكارثة الأمريكية في العراق وأفغانستان وبسبب التجديد النصفي للكونجرس التي خسرها حزبه خسارة مدوية. فما يشغل بال الرئيس الأمريكي في هذه المرحلة هو كيف يتذكره التاريخ، وطالما أنه لا يوجد في سجله من النجاحات ما يستحق الذكر، بل أن فيه من الإخفاقات والفشل ما سوف تتحدث عنه الأمم لسنوات طويلة مقبلة، وانه طبقا للمعلومات التي لديه لا يبدو للمباحثات الفلسطينية ـ الإسرائيلية أنها لن تسفر عن الكثير، وإذا أسفرت القليل فلن يعرف طريقه إلى التطبيق؛ فإن ما تبقى له لا يزيد عن ذكرى الإخلاص لأفكاره الأولى التي يظنها نبيلة.

فخطاب بوش في إسرائيل قاده إلى التوراه، ومنها إلى علاقات واشنطن بإسرائيل التي لا يعادلها علاقات أخرى، ومن كليهما تداعت كل عبارات وكلمات المحافظون الجدد التي صاغها واحد من عتاتهم وهو إليوت إبرامز كما تردد. وكانت ساحة الإشهار بالعودة إلى الأصول الفكرية ليس فقط ما قاله في إسرائيل، وإنما ما جاء به إلى شرم الشيخ؛ فالرجل لم يكن معنيا بتهيئة الأجواء لتسوية محتملة، كما لم يكن معنيا بترميم الجسور مع الدول القريبة من الولايات المتحدة والتي شرخها خلال فترة رئاسته، وإنما كان معنيا بإشهار موقف وليس تجديد سياسة. وببساطة كان جورج بوش قد قرر أن يعود إلى وجهه «الحقيقي» مرة أخرى، وبأكثر صيغة للنقاء الآيديولوجي والفكري، طالما أنه يعيش شهوره الأخيرة في البيت الأبيض. وبشكل من الأشكال بدا الرئيس الأمريكي بين الكنيست الإسرائيلي وشرم الشيخ أشبه برجل مهزوم يريد أن يقول إن أفكاره سوف تعيش أكثر مما عاش هو، وسوف تنتصر في يوم من الأيام حتى ولو لم تكن تحت قيادته. وببساطة كان ينطبق على بوش المثل المصرى الذائع «يا رايح كتر من الفضايح»، وكان لديه منها الكثير، والأرجح أنه سيكون لديه خلال الفترة المتبقية من رئاسته ما هو أكثر.

ولكن مثل هذه النوعية من السياسة الخاصة بنهاية إدارة أمريكية لها وجهها الآخر مثل كل أنواع السياسات الأخرى، وهى أن الأطراف الدولية الأخرى تعرف كيف تستغلها أيضا. وطالما تعرف كل الدول النظام الأمريكي المتواتر الرؤساء فإن الرئيس الأمريكي المقبل، خاصة إذا كان من حزب آخر، وفي وقت أزمة استراتيجية أمريكية على مستوى العالم، فلا بد له أن يفتح كل الملفات مرة أخرى، ويبحث عن سياسات جديدة. وكان ذلك هو ما فعله الرئيس مبارك حيث رد الصاع صاعين للرئيس الأمريكي سواء فيما تعلق بخطابه في إسرائيل، أو في موقفه من التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، أو من قضية الديمقراطية في المنطقة. ورغم أن جورج بوش لم يكن هو الرئيس الوحيد الذي ذهب إلى إسرائيل للاحتفال معها بمرور ستة عقود على إقامتها، ولا كان هو الوحيد الذي تملق الإسرائيليين بالطريقة التي جرى التملق بها، فما حدث هو أن عشرات من ممثلي الدول كانوا هناك وجرت على ألسنتهم جميعا عبارات مشابهة بشكل أو آخر؛ ومع ذلك فإن الصحافة العربية، والمصرية بوجه خاص، كالت لجورج بوش ما لم تفعله مع رئيس أمريكي آخر منذ وقت طويل. وباختصار كانت «قللا» كثيرة يجري تكسيرها وراء الرئيس الأمريكي حتى قبل أن يغادر البيت الأبيض بثمانية أشهر.

أول ضحايا هذه الحالة هي احتمالات التسوية الفلسطينية الإسرائيلية وإرجائها إلى زمان قادم وربما أزمنة قادمة سوف تجري فيها مياه ودماء كثيرة؛ وبالتأكيد فإن العلاقات المصرية ـ الأمريكية تأثرت سلبا بأكثر مما هي سلبية في هذه المرحلة أو هكذا سيكون ملفها عندما يأتي الرئيس الأمريكي الجديد؛ وحتى ربما أصاب الرزاز مؤتمر شرم الشيخ نفسه الذي كان فرصة لمصر لتسويق سياساتها واقتصادها فطغى حضور وذهاب جورج بوش عليها. ولكن وفيما يبدو أن اللعبة في الشرق الأوسط راحت تبحث لنفسها عن قواعد جديدة وجدول أعمال جديد، ولمن لا يصدق عليه فعليه أن يراجع الاتفاق اللبناني في الدوحة، والإعلان السوري التركي الإسرائيلي عن المفاوضات الجديدة، ومقترحات الدول الست لإيران فيما يخص تخصيب اليورانيوم، وكلها تقول بأنه آن الأوان للتعامل مع الراديكاليين من أجل عقد صفقات جاهزة للرئيس الأمريكي الجديد، أو ربما لتفويت الوقت الباقي من الرئيس القديم دون كوارث عظمى، والله أعلم !!.