الكويت.. هاجِس الأَسلمَة!

TT

كانت محطة تلفزيون دولة الكويت الوحيدة التي تُستلم بجنوب العراق، قبل فتح تلفزيون البَصْرة (1969)، ومجلة «العربي» الأكثر حضوراً. ونتذكر توثيق الأخيرة لتفاصيل الأهوار (1966)، وقد لجأنا إلى العدد كشاهد على أبهة المكان، لكسب الرأي العالمي، عندما تعرض للتجفيف إبان التسعينيات. ومن المحطة والمجلة تابعنا تقدم الحياة المَدنية بالكويت: إعلان الدستور (1962)، بلا معركة على غرار المشروطة والمستبدة (1906)، بإيران، والعراق، والأناضول، ثم فتح مجلس الأمة (1963)، واستمرار الحياة الانتخابية كل أربع سنوات، فجامعة الكويت (1966)، كمؤسسة مختلطة.

زرت الكويت مؤخراً بدعوة من المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وحضرت ندوات خطة التنمية الثقافية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. حينها حسدت المتداخلين كونهم يتحدثون من دون الالتفات إلى الوراء، وأديبات وأكاديميات مقتدرات تحدثن بلغة العصر، أكاديمية سعودية نهرت زميلها العُماني كونه أشار إليها بمفردة «حُرمة» وسط تضامن الآخرين معها! وعلى الرغم من إثارة العديد من المختلف عليه لكني لم أسمع نبرة مرتفعة، ولم أشهد تهديدا بسبابة!

صادفت مناسبتين: وفاة الشيخ سعد العبد الله، وإجراء الانتخابات النيابية. شعرت وأنا أجالس مجموعة من مثقفي الكويت بديوانية الدكتور سعد بن طفلة، حيث علموا بالنبأ قبل إذاعته عبر وسائل الإعلام، بقرب المسافة بين الحاكم والمحكوم، حينها حَزن الجميع وترددوا طواعية عن ندوة تلك الجلسة! إلا أنهم أكتفوا بمرثية مؤثرة ارتجلها صاحب الديوانية، ثم باشروا ندوتهم.

وعلى الرغم من تجاور الطوائف في المجتمع الكويتي، حتى هناك طباطبائي سُنّي وطباطبائي شيعي، لم تكن الطائفية هي الهاجس الأهم، في ديوانية لأهل الشيعة أو السُنَّة، من قِبل ليبراليي الكويت، نساءً ورجالاً، من الحاملين انفتاح أجواء الستينيات والسبعينيات، وحتى غزو سلطة البعث لبلادهم. إنما الأهم من ذلك هو محاولات التراجع عن الحياة المَدنية تحت عباءة الديمقراطية، من قبل الجماعات السلفية من الطائفتين، مع تعاضد قبائلي ملموس، حتى غدت كثافة اللحى علامات فارقة لمرشحي تلك الجماعات.

ما زالت الكويت مفتوحة لمذاهب وأديان، يُقلق أصحابها التصاعد السلفي، وتمكنه من تشريع مقالاته عبر البرلمان. هذا ما لمسته، من دون تصريح، من اللقاء بأتباع كنيسة الكويت الوطنية الإنجيلية، وكذلك الحال بالنسبة للكنيستين القبطية والكاثوليكية، والأخيرتان من كنائس الوافدين، مع أن وجود تلك الكنائس، وفتح ديوانية القس عمانوئيل غريب، تُذكر بمجد المدن الإسلامية في قبول الآخر، مثلما تُذكر المجاورة بين قصر الإمارة ومسجد الدولة بتمصير المدن الأُول. المسجد الذي صممه المعمار محمد مكية، وجهد لترك منازل في أركانه للطيور، وقد شاهدتها تشارك المصلين ماء الوضوء.

كذلك لم يخف الشيخ حسين المطوع ـ الشيعة الشيخية، أو أتباع الشيخ أحمد الأحسائي (ت 1826) ـ قلقه من إقحام الدين في السياسة بركوب سفينة الديمقراطية ثم توجيه دفتها، فجماعته لا يرون تسييس الدين صواباً، ولا يريدون التفريط بالحرية التي يتحركون بها، ولا بتجاوز استغلالها إلى ما يضر في تحقق إنجازات مدنية، ببلاد غطت الرمال آثار مدنية قديمة بفيلكتها، ثم أعادت تأسيسها القبائل وصيادو اللؤلؤ بين عرض الصحراء وساحل الخليج. تحدثت مع الشيخ الشيخي لساعات، فتح لي ملف الصراع داخل المذهب. فالشيخ الأحسائي، الذي استبعد من قِبل مراجع دين، كان مجرد صاحب رأي، واستُخدمت السلطة الزمنية ضده، ومن هذا المنطلق نتفهم هاجِسه من السلطة الدينية، وقطعاً لن تخلو الأخيرة من طائفية تهشم وحدة المجتمعات والبلدان.

لفتت نظري، وأنا أزور المكان أول مرة، عبارة نُقشت على واجهة قصر السِيف، أي ساحل البحر، مُنذ 1918: «لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك». ويبدو الغرض من نقشها على بوابة الإمارة، ويمر تحتها الأمراء والوزراء، هو قهر الغرور، وبقدر ما تُشعرك بالاطمئنان والقيمة، ترى ببلدان أخرى عبارة «... إلى الأبد" مخيفة مُذلة! أتت العبارة في نُصح الملوك، وقيلت لسليمان بن عبد الملك (ت 99هـ): «إن هذا الأمر لم يصل إليك إلا بموت مَنْ كان قبلك» (الطرطوشي، سِراج الملوك).

هناك مخاوف يتبادلها الكويتيون، مِمَّنْ أسعدته مَدنية عقود تحاكت مع انفتاح البحر، مِن أَسلمة تندفع لتحجيم الحريات الاجتماعية والأكاديمية والثقافية والفنية، فبعد إلحاح نجحت بفصل التعليم الجامعي. أَسلمة تشعرها صارخة في مكتبات شارع المثنى، حيث الباعة الوافدون، من نمط واحد، تتماهى مع سلوكهم كتب عذاب القبر، والزواج من الجن، إلى جانب ندرة الكتاب الأدبي والفني. ويبدو للأَسلمة الموجهة دور بغلق باب البرلمان بوجه المرأة للمرة الثانية، لكنها عدت قرار مشاركتها إنجازاً، تحاول العَضَّ عليه بنواجذها!

[email protected]