إجازة سجين

TT

كنت أعتصر آخر القطرات في فنجان قهوتي بأحد المقاهي الدنماركية في مدينة كوبنهاجن قبل سنوات حينما أطل وجه عربي على المقهى فلم يجد لجسده كرسيا يأوي إليه، فدعوته إلى مشاركتي الطاولة ريثما أنتهي من دفع ثمن القهوة للنادل.. تملكتني الدهشة، وهو يعرف نفسه لي بأنه سجين خرج في إجازة أسبوعية لمدة 24 ساعة، يعود بعدها طائعا مختارا إلى سجنه.. لم أكن قد سمعت بذلك من قبل، ولم ألتق قط بسجين يقضي إجازة أسبوعية..

ودارت عجلة الزمن سنوات، وأصبح من المألوف أن نسمع في عالمنا العربي أفكارا متطورة في فلسفة السجون، والتعامل مع السجناء، بعد أن ظل السجن طويلا في ثقافتنا العربية مجرد مستودع بشري لحجز المجرمين والخارجين على القانون.. وقد شهدت السعودية قدرا من هذه الأفكار المتطورة المتصلة بالسجن، والعقوبات البديلة، وحوافز الإجازات الشهرية، وتخفيض مدة العقوبة، وارتباطها بحسن السيرة والسلوك..

وفي حوار مع مدير عام السجون في السعودية اللواء الدكتور علي الحارثي نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» الأحد الماضي، تطرق إلى الكثير من هذه الأفكار كبدائل عقوبات السجن، والتي يراها من الحلول غير التقليدية التي تخفف أعداد السجناء، وهي في تقديري أجدى وأفضل من السجن إذا ما طبقت على بعض الشخصيات القابلة للإصلاح، والتي ليس لها سجل إجرامي يعوق منحها مثل هذه الفرصة لتفادي خبرة السجن، فضلا عن أن بدائل عقوبة السجن يمكن أن تمنح المعاقب خبرات مهنية وإنسانية عبر إشغاله في قضايا تتصل بخدمة المجتمع، وما أكثر المجالات التي نحتاج فيها إلى خدمة هؤلاء كالمساجد والمستشفيات والجمعيات الخيرية والشوارع وغيرها، فالسجون ليست الأماكن الأفضل لإصلاح النفوس، وتهذيب الطباع، ونشوء الإحساس بالندم، بل إن السجون في بعض الحالات يمكن أن تتحول إلى بيئات مشجعة على احتراف الجريمة ومخالفة القانون، من خلال احتكاك المعاقب ببعض أصحاب السوابق وأرباب السجون، ومن شأن هذه البدائل أن يكون المعاقب في بيئات تحث على الفضيلة كالمساجد والجمعيات الخيرية بدلا من وجوده في بيئة تعج بذوي الخطأ والخطايا..

أقف احتراما للكثير من الأفكار التي وردت في حوار اللواء الحارثي كفتح باب التعليم عن بعد للمساجين عبر شبكة الإنترنت، والمطالبة بإلغاء صحيفة السوابق لما يتولد عنها من مشكلات تتصل بمستقبل السجين، كما أرى في تطبيق منظومة من الحوافز على المساجين كالإجازات الشهرية، وتخفيف مدد العقوبة، والاستفادة من الخدمات الترفيهية داخل السجن، عوامل إيجابية سوف تسهم في تمكين السجون من تحقيق رسالتها في التهذيب والإصلاح وتعديل السلوك..

وليكن السجن كالكي آخر الدواء.

[email protected]