تناقضات العولمة

TT

لأول مرة في التاريخ، يأتي نظام اقتصادي عالمي لتحقيق رفاهية لا يمكن تخيلها. وفي تناقض واضح، نجد أن عملية العولمة أثارت النزعة القومية التي تهدد تحققها. وتعتمد الفكرة الأساسية للعولمة على أن المنافسة سوف تعمل على إبراز المؤسسات الأكثر فعالية، ويتطلب ذلك وجود فائز وخاسر. فإذا كان هناك خاسرون دائمون، فإنهم سيتحولون إلى مؤسساتهم السياسية المعروفة من أجل تعويض خسارتهم. ولن يهدئ من روعهم الافتراض الصحيح بأن منافع النمو العالمي أكبر بكثير من تكلفته. وعلاوة على ذلك، فإن الكثير من الدول يضطر إلى سن تشريعات اجتماعية جديدة لتظل قادرة على المنافسة، وهو ما يؤدي إلى احتجاجات داخلية. وفي ظل الأزمات الاقتصادية، تتضخم مثل تلك الاتجاهات. ومن الأمثلة على ذلك، الخلاف حول سياسة التجارة في الانتخابات الأميركية.

وفي الدول الصناعية، تؤثر العولمة على السياسة الداخلية بطريقتين: تحسن الإنتاجية، مما يؤدي إلى التناقض الاجتماعي بين زيادة الرفاهية وارتفاع نسبة البطالة. وفي الوقت نفسه، يبتعد الأفراد عن الأعمال الدنيا فيشغلها العمال الوافدون من الخارج. فينشأ صدام بين الثقافات والدفاع عن القوميات. فتحصل الأساليب المختلفة المدافعة عن حماية الإنتاج المحلي على قاعدة شعبية.

ويظهر هذا الاتجاه أيضا في القطاع الإنتاجي في الدول الصناعية. ومن خلال اتصالها مع المؤسسات الصناعية والمالية المماثلة حول العالم عبر الإنترنت، تعمل الشركات الدولية في السوق العالمية، مع موظفين يحظون بفترات عمل أطول من العاملين في الحكومات مع وجود قيود عمل أقل. أما الشركات المعتمدة على الاقتصاد القومي فهي لا تحظى بنفس الفرص. وبصورة عامة، توظف تلك الشركات موظفيها بأقل الرواتب وأقل التوقعات تفاؤلا. فهي تميل إلى الاعتماد على الأسواق المحدودة وعلى عمليات سياسية قومية. وتدافع الشركات الدولية عن حرية التجارة وحرية انتقال رؤوس الأموال؛ أما الشركات القومية والاتحادات التجارية فهي تدافع عن حماية الإنتاج المحلي.

ومن الواضح أن الأزمات الاقتصادية تضخم من تلك التوجهات. وقد تسبب النظام المالي العالمي في أزمات دورية من الممكن توقعها كما نتوقع نموه الدائم، وقد حدث ذلك في أميركا اللاتينية خلال الثمانينات، وفي المكسيك عام 1994 وفي آسيا عام 1997 وفي روسيا عام 1998 وفي الولايات المتحدة عام 2001 ثم مجددا في 2007.

وعلى الرغم من اختلاف مسببات كل أزمة، إلا أن الخصائص المشتركة كانت الإسراف في التكهنات وسوء تقدير حجم المجازفة. ففي كل عقد، كان دور رأس المال المضارب يتضخم. وبالنسبة لرأس المال المضارب، فإن الفطنة تكون صفة ضرورية. فالاندفاع عند رؤية الفرصة والهرب عند رؤية أي بادرة للخسارة، جعل رأس المال المضارب يحوّل أي تحسن إلى مجرد فقاعات وأي هبوط إلى أزمات.

ويثير الأثر الاستراتيجي للعولمة قضيتين مهمتين: أولا، هل توجد صناعات لا يمكن الاستغناء عنها من أجل الأمن القومي، فيتم الحد من الاستثمار الأجنبي فيها أو حتى منعه؟ ثانيا، ما هي الصناعات التي يجب الحفاظ عليها من الانهيار للحفاظ على القدرة الدفاعية للدولة؟ لقد أسيئت الإجابة عن هذه الأسئلة، ولكن هذا ليس عذرا لتجنب ما تتطلبه المصلحة القومية.

إن النظام العالمي يواجه الآن تناقضا. فرفاهيته تعتمد على نجاح العولمة، ولكن تلك العملية تثير جدلا من الممكن أن يعوق طموحها. والقائمون عليها لديهم فرص قليلة للتعامل مع عملياتها السياسية. وحوافز القائمين على العملية السياسية ليست بالضرورة ملائمة للقائمين على العملية الاقتصادية. ويجب القضاء على تلك الفجوة أو على الأقل تضييقها.

وكبداية، أقدم التصورات التالية:

ـ الأمر الأول هو معرفة أن تلك المشاكل تشوه النجاح الكبير الذي تم تحقيقه. والجدل حول مواطن الضعف يجب ألا يمتد إلى الهجوم على الإطار الأساسي لعملية العولمة، كما يحدث بكثرة في الحملات الرئاسية. ويجب على القادة السياسين أن يتجنبوا ـ لا أن يشجعوا ـ مذهب حماية الإنتاج القومي الذي تسبب في كارثة خلال الثلاثينات.

ـ يجب وضع نطاق لحدود الأمن القومي بالنسبة للعولمة على أساس قومي، بدلا من تركه لجماعات الضغط وسياسات الانتخاب. فيجب على الإدارة المقبلة أن تشكل لجنة على أعلى مستوى من الحزبين لدراسة ما يكوّن قاعدة تكنولوجية وصناعية استراتيجية أميركية وأساليب الحفاظ عليها. ويجب أن يكون من أهم أولوياتها الاهتمام بنظام التعليم الذي يتخرج فيه عدد قليل من المهندسين وخبراء التكنولوجيا مقارنة بمنافسينا. ويجب أن يكون المعيار هو ضروريات الأمن القومي وليس حماية الشركات من المنافسة اللازمة من أجل النمو العالمي. ولن يكون ذلك سهلا، حيث سيحتاج إلى الكثير من المناورة السياسية. ولكن لن تنتهي المشكلة، بل ربما تصبح صعبة الحل.

ـ تحتاج المؤسسات الاقتصادية العالمية إلى توثيق صلتها بالتحديات الاقتصادية والاجتماعية الحالية. فقد بدأت القمة السنوية لمجموعة الدول الثماني (G8) عام 1975 كاجتماع لستة دول ديمقراطية صناعية من أجل تخطيط مستقبلها الاقتصادي والاجتماعي أثناء أزمة الطاقة الأولى. (والتحقت بها كندا عام 1976 وروسيا عام 1998). وفي الاجتماع الأول في رامبوييه، كان المسموح مشاركة ثلاثة أشخاص فقط، من بينهم الرئيس، للتيسير من إجراء مباحثات شاملة وصريحة. ومنذ ذلك الحين، تحولت الاجتماعات إلى مجالس كبيرة لخدمة أغراض سياسية. ويجب على هذه الدول العودة إلى هدفها الأصلي والذي كان مكرسا من أجل قضايا تتعلق بازدهار طويل المدى للاقتصاد العالمي، ومن ذلك إعطاء الفرص للمجتمعات المتأخرة للمشاركة في النمو العالمي. وهنا يجب إدراج كل من الهند والصين، ومن الممكن أيضا البرازيل.

ـ وقد استمرت مجموعة الدول السبع الصناعية الكبرى في اجتماعاتها على مستوى وزراء المالية أثناء اجتماعات الدول الثماني. ويجب على مجموعة الدول السبع أن تتكفل بتناول التشوهات المحلية والاجتماعية التي تسببت بها العولمة، بطريقة منظمة.

ـ تكوين صندوق النقد الدولي الحالي لا يتفق مع الواقع الحالي. فقد أنشئ ليتعامل مع الأزمات الناتجة عن اقتراض الدولة أو إقراضها. فأصبح عاجزا أمام الأزمات المالية في القرن الواحد والعشرين، والتي تنتج عن تعاملات القطاع الخاص. ويسعى صندوق النقد الدولي إلى التأقلم مع الظروف الجديدة ولكن ببطء؛ ولذلك فإنه يحتاج إلى الإصلاح.

ـ ممارسات الإقراض التي تسببت في الأزمة الاقتصادية الأميركية تتطلب انتباها ملحا وتعاونا دوليا كبيرا. فقد كان هناك إسراف وغموض في تلك الممارسات قبل حدوث الأزمة بوقت طويل. فأصبحت تلك الممارسات ممكنة بابتكار أدوات مالية، مما شجع على زيادة التكهنات مع غموض طبيعة الالتزامات.

وفي أزمة الرهن العقاري للمقترضين الذين لم يتم قبولهم من المرة الأولى، لم يستطع المقرضون أن يقدروا المدى الصحيح لواجباتهم، ولم يستطع المقترضون أن يفهموا مضمون التزاماتهم. ولم يتدخل المشرعون، ربما لأنه لم تكن لديهم السلطة الكافية، أو لأن السوق كانت ممتلئة بأدوات مالية أضفت غموضا على المجازفة.

إن علينا مواجهة المخاطر الأخلاقية. فهناك تناقض واضح عندما يتم السماح للجهات المالية بالحصول على أرباح هائلة وإدارة أرصدة كبيرة، ثم عندما تتغير الظروف، تعلن أنها لا يمكن أن تفشل وتطلب من دافعي الضرائب إنقاذها. وتحتاج المؤسسات المالية، سواء كانت بنوكا استثمارية أو صناديق تحوط، إلى الإشراف عليها لحماية مصالح دافعي الضرائب.

وبصورة مجملة، فإنه إذا لم يتم تضييق الفجوة بين النظامين الاقتصادي والسياسي في العالم، فسوف يضعف كل من النظامين الآخر.

* خدمة «تريبيون ميديا سيرفسز»

ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»