«حزب الله» يعلن عن «استراتيجية هجومية»

TT

خطأ فادح أن يتهم «حزب الله» بتدبير انقلاب داخلي للاستيلاء على السلطة في لبنان، وخطأ أكبر منه ان يستمر المعارضون لحزب الله بتلفيق تهم له تصوره كسمكة صغيرة تتناكف في بحر من العداوات المذهبية الضيقة. فما يعلن عنه «حزب الله» صراحة هو أكبر وأخطر بما لا يقاس. ومن الغرابة بمكان ألا يصغي أحد بجدية لما قاله السيد حسن نصر الله يوم الاثنين الماضي، بمناسبة الذكرى الثامنة لتحرير الجنوب اللبناني، وكأنما ثمة من لا يريد ان يصدق ما يسمع، مع ان الحزب نفذ دائماً ما أعلن عنه بما في ذلك تهديده بـ«قطع اليد التي تمتد إلى السلاح».

أعلن الأمين العام لحزب الله بوضوح أن المطلوب ليس الانقلاب وإنما تأمين المشاركة في السلطة. وهذا صحيح، لأن المشاركة التي حصل عليها كافية له لتنفيذ مشروعه المقاوم أو المفاوضة على تنفيذه في أسوأ الأحوال. أما طبيعة المشروع الذي أعلن عنه والذي يفترض أن يناقش على طاولة الحوار الوطني مستقبلاً، فهو مبني على استراتيجيتين خبرهما الحزب بنجاح: «استراتيجية دفاع» وهي موضع قبول حالياً شرط ان تقيد وتشذّب، و«استراتيجية تحرير» لإعادة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا. وهذا جديد ومفاجئ وسيكون موضع خلاف شديد. فاللبنانيون يعرفون أن هذا الطرح يعني العودة إلى زمن العمليات العسكرية الهجومية من الحزب على الأراضي غير المحررة لانتزاعها بالقوة، علماً ان اتفاقاً سابقاً كان ينطوي على استعادتها بالدبلوماسية.

لكن السيد حسن ذهب أبعد من ذلك حين قدم مطالعة طويلة لإثبات صوابية طرحه، فقد قارن ما أثمرته هاتان الاستراتيجيتان في لبنان وغزة مقابل الخذلان الذي أصيبت به «استراتيجية المفاوضات» أو «استراتيجية الانتظار». وربط الأمين العام للحزب بين المقاومين في فلسطين ولبنان، وقدم تحليلاً وموقفاً واضحاً ـ لأول مرة ـ مما يحدث في العراق، مؤيداً المقاومة ومطالباً العراقيين باتباع استراتيجية التحرير لإنقاذ بلدهم. وبذلك لا تسقط فقط فكرة هوس «حزب الله» بمطامع داخلية تفوق قياسه السياسي، وإنما تتأكد مراميه التي تتجاوز السنة والشيعة إلى مشروع عابر للحدود، وهو ما لم ينكره يوماً، وإن تغاضى عن الكلام فيه أثناء محنته الداخلية الطويلة. وتأكيداً على عودة حزب الله إلى مجاله الطبيعي الواسع، دعا أمينه العام «الشعوب العربية والحكومات العربية وليس فقط الحكومة اللبنانية إلى دراسة جدية لاستراتيجية الدفاع واستراتيجية التحرير في ظل موازين القوى القائمة في المنطقة».

وكي تتضح الصورة، عليك ان تنتبه الى أن الأمين العام اعتبر «اتفاق الدوحة» بمثابة انتصار للبنان بمستوى انتصار عامي 2000 و2006 على إسرائيل. أي ان السيد يرى في المرحلة المقبلة فاتحة عهد جديد سيصول ويجول خلالها في معارك، قد لا تكون كلاسيكية الطابع بالضرورة، لكن السلاح موجود وباقٍ وهو جزء من المعادلة، ولا يحتاج إجماعاً وطنياً، وعلى المقاومة أن تمتشقه وتمضي.

وكلام نصر الله قد يبدو للبعض سوريالياً وإنشائياً، خاصة حين طالب تيار ومحبي رفيق الحريري بأفق استراتيجي يشبه نهج الرئيس الراحل، أي أن يلتفتوا هم لإعمار الداخل ويتركوا للمقاومة أمر التحرير والدفاع عن البلاد. بمعنى آخر تقسيم المهمات والمسؤوليات بين الطرفين، خاصة أن نصر الله يرى صعوبة لدى إسرائيل في شن حرب بعد الدروس التي تلقتها. ليس سهلاً، بطبيعة الحال، إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، كما يتمنى السيد حسن. لكن هذا الخطاب سيطرح على طاولة الحوار برعاية رئيس الجمهورية الجديد صاحب الخطاب التوفيقي، وستكون ربما ثمة مسافة واسعة بين ما طرحه من «استراتيجية دفاعية» لا نعرف تفاصيلها بعد، واستراتيجية «التحرير» أو على الأصح «الهجوم» التي يريدها الحزب.

وأمام هكذا معضلة، قد تعيد لبنان إلى عهد الحروب، سيكون من المخيب جداً أن يبقى فريق 14 آذار على خطابه الهش، وحملاته الاتهامية لحزب الله التي تذهب يميناً وشمالاً، بدون تركيز أو جدوى. فالرئيس الجديد قال كلمته الأولية، وقدم صورة بانورامية ومتوازنة عما ستكون عليه مواقفه. و«حزب الله» قدم أطروحته المقاومة بلهجة تصعيدية، من خلال رؤية شاملة ومتماسكة، تعجب أو لا تعجب، فهذا أمر آخر، لكنها تتبع تسلسلاً منطقياً صلباً بالنسبة لما بات يسمى «الفكر المقاوم». أما فريق 14 آذار فيبدو وكأنه ما يزال يلملم الصفوف، ويعيد تلاتيب الأفكار، بعد الصدمة التي تلقاها. وسيكون من المفيد للبنان ولحزب الله أيضاً كي يخفف جنوحه، أن تقارع حجته بالحجة، ومشروعه بمشروع رؤيوي وطني تطرحه الموالاة، يكون قادراً على إحراج الحزب بدل إخراجه من اللعبة، كما المرة السابقة. فما ذهب بنا إلى الجحيم في الشهور الماضية هو تحديداً هذا الغياب الفاضح لرؤية متكاملة، وخطة واضحة يستطيع من خلالها فريق 14 آذار أن يعرض على الفريق المعارض الالتقاء في منتصف الطريق. فماذا جنينا مثلاً من عبارات: «على حزب الله أن يسلم سلاحه فوراً» أو «نحن نريد السيادة وهم مرتهنون للخارج» و«عليهم ان يعترفوا بهزيمتهم في حرب تموز».

في مقابلة جميلة نشرتها جريدة «الفيغارو» الفرنسية مع وزير الخارجية الألماني السابق، والسياسي المحنك يوشكا فيشر، يقول إن «الشرق الأوسط الجديد يتشكل فعلاً، لكنه غير ذلك الذي أراده بوش... انه بعيد عن الديمقراطية لكنه قد يكون نظاماً إقليمياً جديداً، يعكس مصالح كل لاعبيه، ويرسم حدوداً جديدة، تحل مكان تلك التي رسمت بالهيمنة والتسلط (يقصد الفترة الاستعمارية). وإذا لم ترسم هذه الحدود بشفافية وتعاون بين الأطراف، فإن الشرق الأوسط الجديد سيكون أسوأ من القديم».

وبالتالي قد يكون من الحماقة اعتبار خطاب «حزب الله» التصعيدي، زوبعة في فنجان، ستنتهي بسرعة، لأن سوريا تفاوض إسرائيل، وأميركا تغازل إيران، من تحت الطاولة. فكل لاعب ذكي وحاذق في هذه المنطقة البركانية، يعمل وكأن الحرب غداً، ويخطط للسلام وكأنه آتٍ أبداً.

[email protected]