كلمة للزمن

TT

فؤاد السنيورة جاء إلى المنصب الأخطر في السياسة اللبنانية في ظروف «مجنونة». اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في أبشع جريمة لم يكن من الممكن أن يواصل بعدها إدارة أمور البلاد إلا شخصية من معدن غير عادي، ووقع اختيار القدر على فؤاد السنيورة، كانت الجعبة مليئة بالأحزان ومليئة أيضا بالتحديات. فؤاد السنيورة كان مطالبا بأن يعيد الثقة للمنصب الذي تبوأه، الشخصية الوطنية (الخالية من آثار الدماء على يديها والذي التف حوله اللبنانيون بأطيافهم المختلفة وهذا أمر أشبه بالمعجزة!)، وتمكن من أن يكون صمام أمان وطني وبلاده تقصف من عدو شرس أرعن لا يرحم، وذلك إبان الاعتداء الإسرائيلي الوحشي على لبنان. فؤاد السنيورة كان رفيق درب وصديق عمر ومخزن أسرار رفيق الحريري، فهو مثله ابن لمدينة صيدا. كان وزيرا لأصعب الحقائب وأقلها شعبية وهي المالية، وارتبط اسمه بقرارات إصدار الضرائب وتسعير السلع مما أثر على شعبيته في الشارع العام، ولكن لم يكن لأحد يستطيع أن يشكك في نزاهة الشخص أو في نظافة يده وعفة لسانه (في زمن أصبح ذلك من النوادر والأساطير)، ورغم ذلك نال فؤاد السنيورة من الاعتراض والهمز واللمز والطعن في كفاءته ووطنيته ودينه وعروبته ما لا يستطيع تحمله أي شخص آخر. عندما تسلم فؤاد السنيورة كان أشبه «بالغراء» الوطني الذي أمسك بلحمة البلاد وسط أمواج من الفتن تتلاطم على شواطئ البلاد. أدار البلاد وحاول الإمساك بزمام الأمور ليسيرها إلى بر الأمان، وكان ذلك يحدث مع انشقاق مفتعل من كتلته الوزارية أدت إلى استقالة عدد غير بسيط من الوزراء، والحراك من خلال هذه المجموعة المستفيدة ضده، فكانت يوما تظهر لممارسة بعض مهامها ويوما تتذكر أنها مستقيلة، وطبعا كانوا يستخدمون بشكل فج من قوى إقليمية داعمة لموقفهم. أول مرة أشاهد فيها فؤاد السنيورة كانت إبان تبوئه منصب وزير المالية، وكان ذلك في صلاة الجمعة ببيروت، وكان يجلس وحيدا بهدوء وصمت وخشوع وإنصات داخل أحد مساجد وسط المدينة يستمع لخطبة صلاة الجمعة. كان شخصية مؤدبة محترمة وقورة، هذا الانطباع الذي تركه على كل من يقابله أو كما يحلو للبنانيين أن يصفوه بقولهم «خواجة وآدمي»، وسيظل مشهده راسخا في الذاكرة وهو يقاوم دموعه المحبوسة في مقلتيه وصوته المرتعش وهو يشكو للعالم العربي تحديدا والعالم بأسره بصورة عامة حال لبنان وهو يواجه قساوة عدوان مجنون من عدو إسرائيلي أرعن. إنها لحظات في غاية القوة والعزة من رجل كريم وشجاع.

في زمن لا يعرف فيه الرجال إلا من خلال مواقف وأدوار يقومون بلعبها فيكونون عناصر خير ومفاتيح للأمل لا جنود شر وأدوات للخوف، برز فؤاد السنيورة ونال احترام الناس. لم يأت عن طريق الرصاص والبارود. جاء واستمر وناضل بالكلمة المحترمة واللغة التوافقية والعمل الدؤوب، وهكذا يكون الرجال. في زمن قلت فيه القدوات، صنع فؤاد السنيورة لنفسه أيقونة في ذاكرة التاريخ السياسي اللبناني، ولعل أبسط ما يقوله اللبنانيون لفؤاد السنيورة شكرا، وأن يعينوه.