لبنان.. ووهم ديمقراطية التشارك الطائفي

TT

انتخب الرئيس اللبناني التوافقي العميد ميشال سليمان، وبدأت المشاورات لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية بثلثها الضامن، ووضع الإطار القانوني للانتخابات البرلمانية بالرجوع لتقطيع 1960.

ابتهج اللبنانيون والعرب باتفاق الدوحة الذي أعاد الوئام ـ ولو مؤقتا ـ للساحة اللبنانية الممزقة، وبدا أن الديمقراطية في بلاد الأرز قادرة مجددا على احتواء الأزمات الداخلية وعلى التأقلم مع التوازنات المحلية والإقليمية المتغيرة.

والواقع أن العرب كثيرا ما نظروا بصفة مزدوجة للحالة السياسية اللبنانية: انبهار بسقف الحريات العامة المرتفع ونفور من الحالة الطائفية المفضية للفتنة والاقتتال. وغني عن البيان أن النظام السياسي اللبناني فريد في مرجعيته وآلياته الإجرائية، فهو خليط من تركة نظام الملل العثماني ومسلك الديمقراطية التشاركية التي طبقت في بعض البلدان الأوربية.

وبدون الخوض في الاعتبارات التاريخية البعيدة، نكتفي بالإشارة الى أن الإصلاحات العثمانية الرامية الى حماية الأقليات وترتيب العلاقة بينها قد سمح بانتشال منطقة الجبل اللبناني من الصراعات الحادة التي عرفتها في القرن التاسع عشر.

ولم يختلف كثيرا نظام المتصرفيات الذي أقامه الأوربيون في جبل لبنان عن النموذج العثماني، وكان بالفعل الأساس الذي وضعت عليه فرنسا شكل الدولة اللبنانية الموسعة غداة إعلان استقلالها سنة 1920.

ومع أن دستور 1926 تبنى مبادئ الجمهورية الفرنسية الثالثة وأعلن مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات، إلا انه كرس الطائفية في مادته التاسعة، ونص على آلية التوازن الطائفي في التمثيل في دوائر القرار والحكم.

وقد اعتبر هذا النظام الذي أريد مؤقتا مناسبا للحالة اللبنانية التي لا يمكن أن تنطبق عليها الديمقراطية التصادمية التي تقتضي انسجام وتماسك النسيج الاجتماعي. والمعروف أن بعض البلدان الأوروبية أخذت بمثل هذا النظام الذي أطلق عليه المفكر السياسي آرند لبهرت تسمية «الديمقراطية التشاركية» (من العبارة اللاتينية consociatio).

وبحسب لبهرت فإن معايير الديمقراطية التشاركية هي: قيام ائتلاف واسع، واعتماد نظام التمثيل النسبي، والسماح بمستوى مقبول من اللامركزية، وإعطاء المجموعات المتشاركة حق الفيتو في القضايا الجوهرية التي تمس الكيان الجماعي. ولكي ينجح نظام الديمقراطية التشاركية يتعين توفر عدد من العوامل المساعدة، من أهمها اتساع تنوع النسيج الاجتماعي، وقيام تعددية سياسية فعلية، ومحدودية المجال الجغرافي، وانقياد المكونات لزعامتها، وتوفر حد مقبول من الوعي بالانتماء الجماعي.

طبق هذا النظام بنجاح في هولندا وسويسرا وبلجيكا بعد تجارب أليمة من الاقتتال والفتنة، واعتمدته مؤخرا بعض البلدان الأفريقية كرواندا بعد خروجها من محنتها الدامية.

بل ان السودان اعتمد بعد نهاية النزاع الشمالي ـ الجنوبي مسلكا قريبا من هذا النظام، وأخذ العراق بعد سقوط نظام صدام حسين المقاييس نفسها في سياق التقسيم الطائفي الذي قننته سلطات الاحتلال.

بيد التجربة اللبنانية أثبتت أن النموذج الطائفي لا يمكن أن يكون بديلا سياسيا ناجعا وملائما لتسيير التعددية الدينية والقومية حتى في المجتمعات الأكثر تنوعا واختلافا. فالديمقراطية التشاركية التي قامت في أوروبا نجحت لأسباب ثلاثة رئيسة هي:

أولا: انحصار التعددية غالبا في البعد اللغوي الثقافي الذي لا يمكن أن يغطي على أنماط التجانس والتعاضد المتولدة عن دوائر المواطنة المشتركة.

ثانيا: وجود بنية بيروقراطية إدارية قوية للدولة، تؤهلها لضبط التوازنات الداخلية بإنصاف وثبات، مما يؤمن الاستقرار السياسي المنشود.

ثالثا: غياب معطى التشويش الخارجي، لوجود بيئة إقليمية مساعدة.

ولا يتوفر أي من هذه العوامل في الحالة اللبنانية، التي تحول فيها النظام السياسي الى ماكينة لإعادة إنتاج الطائفية بدل حماية النسيج الاجتماعي من آثارها المدمرة.

ففي الستينات وأوائل السبعينات تنامت وتيرة الاندماج الاجتماعي بفعل الطفرة الاقتصادية المذهلة التي عرفتها البلاد، وضعف الانتماء الطائفي، ولم تعد الحالة السياسية ـ المتمحورة حول التقسيمات الآيديولوجية المألوفة أوانها عربيا ـ تعكس التوزيع الطائفي، بل ان المعادلة الطائفية تحولت الى وضعية إقطاعية معزولة. إلا أن النظام السياسي العصي على التعديل والمراجعة حكم على اللبنانيين بالعودة الى السجن الطائفي، والتدخل الإقليمي شجع هذا المسار، على الرغم من وعود اتفاقية الطائف التي كان من المؤمل أن تدشن حقبة جديدة في العقد الوطني اللبناني.