أمل إبليس

TT

أصرّ أحدهم على دعوتي للعشاء، ومن شدة إصراره توقعت أن لديه مطمعا بي، وحيث إنني إنسان شكاك ومتطيّر أتوقع دائما أسوأ الاحتمالات، فقد ترددت كثيراً بقبول دعوته.. لكن إلحاحه المتواصل أجبرني على القبول، وذهبت إليه بحذر كبير، متوقعاً منه أن يذبح لي ذبيحة، أو على الأقل أن يأخذني إلى أحد المطاعم الراقية.. ركبت معه في سيارته «الهوندا»، وإذا به يتوقف عند مطعم «ماكدونلد»، وكان عشائي سندوتش «همبرغر» مع قليل من البطاطس وقدحا من الكولا.

وصدق حدسي وشكي، لأنه أثناء ما كنا نلتهم السندوتش، وإذا به يفاتحني برغبته في الحصول مني على «قرضة حسنة» على حد قوله.

طبعاً رفضت طلبه بإباء وشمم وأدب شديد كذلك، بحجة أنني لا أعرف ما هي القرضة الحسنة أصلا، ثم إنني اختزن قرشي الأبيض ليومي الأسود الذي سوف يأتي قريباً لا محالة.

دفع الحساب بتبرّم واضح وكأنه يلعن الساعة التي عزمني فيها، ولسان حاله يقول: مطرح ما تسري إن شاء الله ما تمري.

لم يرجعني بسيارته بحجة أن طريقه مختلف، تركته وأخذت سيارة تاكسي وكنت أتنفس الصعداء، وطوال الطريق كنت أفكر بهذا «الماكدونلد» الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.

وما كدت أصل إلى منزلي حتى فتحت «الإنترنت» على «غوغل»، أبحث عن التاريخ العريق لهذه الشريحة من اللحمة المفرومة.. وهالني ما عرفته عن ذلك الشخص الفاشل دراسياً، والكسول والحالم في نفس الوقت وهو المدعو: «ريموند كروك».

هذا «الكروك» لم يكره في حياته شيئاً أكثر من المدرسة ـ مثلي تماماً ـ توفي والده، وطردته أمه من البيت في عمر مبكر، واشتغل صبياً يبيع عصير الليمون، ويسمونه في مصر «الليموناضة»، وطرد من عمله لأنه كان يلعب ويغني أكثر مما يبيع.

وعندما لم يكن في جيبه غير مائة دولار فتح مع بعض أصحابه محلا لبيع الآلات الموسيقية المستعملة وفشل المشروع، ثم اشتغل كمستخدم في «نايت كلوب»، واعتدى عليه بالضرب بعض السكارى وكاد يموت تحت لكماتهم وركلاتهم، وبعد أن شفي ترك عمله وهو يقول عن حالته: إنني لن أنسى هذه المرحلة ما حييت، كنت مفلساً تماماً، ولم يكن لدي معطف ولا جكيت ولا حتى قفازات تقيني صقيع البرد.

وقادته الظروف إلى كشك يبيع الهامبرغر للأخوين «ماكدونلد»، وعمل معهما كمستخدم فترة قصيرة، وأعجبته طبيعة العمل، واقترح عليهما أن يتوسعا ويفتحا أكشاكا في مناطق أخرى، غير أنهما رفضا ذلك لأنهما قانعان بأرباحهما ولا يحبذان المخاطرة، وعرض عليهما أن يفعل ذلك مستخدماً اسمهما مقابل نسبة من الأرباح ووافقا، واستطاع أن يقترض شيئاً من المال، وما هي إلاّ سنوات وبدأ يجني ثمار النجاح. ونتيجة لطمع الأخوين قررا إما أن يترك العمل أو يبيعاه على أن يدفع لهما مبلغ «2.7» مليون دولار، وخاطر للمرة الثانية وقبل أن يدفع لهما شريطة أن يتخليا له عن الاسم التجاري، وهذا ما كان.

واليوم توجد في أنحاء العالم أكثر من عشرين ألف مطعم «لماكدونلد»، ومبيعات سنوية تزيد على ثلاثين مليار دولار، أما الأخوان اللذان باعاه بـ«2.7» مليون، فقد انتهيا مفلسين.

وهكذا هي الدنيا، ويا إلهي أحشرني يوم القيامة مع مستر «كروك» ـ هذا إذا كان مسلماً ـ وأيضاً يا رب العالمين اجعل النجاح يترصدني في كل خطوة أخطوها، وأن تحف بي من كل جانب دنانير الذهب، وكذلك البلاتين، ولا بأس بشيء من الأحجار الكريمة.

[email protected]