الإعلام العربي: (أداة صراع).. أم (أداة تفاهم)؟

TT

دون تقليل من مسؤولية السياسيين: يتحمل الإعلام تبعة (نصف جريمة) النزاعات أو الصراعات العربية.. وهذا التقدير (الرقمي) ليس مجرد خاطرة ذهنية، بل هو ثمرة دراسة علمية رصينة.. ففي مبحث (أدوات الصراع) من كتاب (الصراعات العربية ـ العربية)، وهو كتاب قوامه دراسة علمية استطلاعية قام بها مؤلف الكتاب الدكتور أحمد يوسف أحمد.. في مبحث أدوات الصراع من هذا الكتاب نقرأ المعلومة التالية: «تظهر النتائج أن الاداة الدعائية (الإعلام) استأثرت كما هو واضح بما نسبته 49.34 بالمائة من مجموع تكرارات لجوء البلدان العربية الى مجمل الأدوات التي يتضمنها الجدول رقم (52)، أي حوالي نصف هذه التكرارات».

إن هناك خلافا سياسيا بين السعودية وسوريا حول هذه القضية أو تلك. هذا واقع: ليس من الواقعية نكرانه، بيد أن الخلاف السياسي لا يجوز للإعلام أن يهوله ويحوله إلى حرب أو حالة حرب بين البلدين.. لقد نشرت صحيفة لبنانية (أخبارا) تزعم أن القيادة السعودية (تتآمر) لأجل قلب نظام الحكم في سوريا «!!!!».. هكذا، وبهذه البداهة والعفوية والتلقائية. وكأن قلب أنظمة الحكم هواية تمارس كل صباح كما تمارس رياضة المشي مثلا!!..

ولما كانت الأخبار تنطوي على مخاطر أمنية واستراتيجية جسيمة فقد سارعت سوريا إلى نفيها: جملة وتفصيلا، جذرا وفرعا.. وهذه مسؤولية ناجزة تُحمد عليها سوريا: مسؤولية نقض أخبار كاذبة.. ومسؤولية أن الذي يقود الدول هم السياسيون لا الإعلاميون.. ومسؤولية أن العلاقة بين البلدين حتى على افتراض وصولها إلى الحافة في بعض الأحيان، فإنه يتوجب الوقوف بثبات وصلابة عند الحافة لئلا تهوي إلى القاع: أملا في مستقبل أفضل ذي مناخ أصح. وهذا هو (مضمون) الدبلوماسية الحصيفة، وهو مضمون أصّله المنهج القرآني، بمعنى أن هذا المنهج أرسى قاعدة ترك باب الصلات والعلاقات و(الوداد)! مفتوحا دوما حتى أمام المعادين من غير المؤمنين: «عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم».

ولكي يظل باب العلاقات السويّة النافعة المريحة مفتوحا أبدا: يتوجب دفع الإعلام و(توجيهه)!! لأن يكون (أداة تفاهم) بين أمم الأرض كافة، بَلْهُ بين العرب والمسلمين.. أما أن يتحول الإعلام إلى (أداة) شقاق ونطاح وصراع، فإنه يتحول عندئذ إلى مسعر حروب: باردة وساخنة (والحرب أولها كلام) كما تقول الحكمة العربية التي بثها شعر عربي.

والإعلام ما هو بمستطيع: أن يسمو إلى هذه المسؤولية الاجتماعية والسياسية والحضارية الواجبة حتى يتحرر (أو يُحرر) من مرضين وبيلين:

أولا: مرض صك أو ترويج مفردات ومصطلحات معينة، وتصنيف الناس والدول على أساسها، بعد حشرهم في مضايقها.. ومن هذه المصطلحات (الاعتدال) و(الراديكالية) مثلا.

1 ـ بالنسبة إلى الاعتدال نسارع فنقول: انه مفردة عربية وإسلامية أصيلة وممدوحة ـ في الكتاب والسنة ـ: فكرا وفعلا وسلوكا، ذلك ان مقابل (الاعتدال) هو: الغلو والتطرف والتنطع ومجاوزة الحد في كل شيء. وهذا المقابل مقبوح مذموم في شريعة الإسلام. لكن طبّاخي المفردات السياسية ومحرّفيها يحرفون مفهوم الاعتدال بما يتوافق مع أهوائهم وايدلوجياتهم وفخاخهم ومكايدهم.. مثلا: الاعتدال عند غلاة المحافظين الجدد في واشنطن (الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون): الاعتدال في مفهوم هؤلاء ـ بالنسبة للسعودية ـ (وكذلك في مفهوم صداهم في الوطن العربي) هو: التخلي عن الإسلام من حيث انه منهج متماسك ذو عقيدة وشريعة ومفاهيم اخلاقية واجتماعية، ومن حيث انه (فلسفة) يقوم عليها نظام سياسي واجتماعي. وبموجب شرط (التخلي) هذا: يجردون السعودية من (الاعتدال) حتى وان (تكتكوا) ووصفوها بالاعتدال: إعلاميا وسياسيا!.. ومن ضمن مفهومهم المعوج لـ(الاعتدال السعودي): أن تهدر السعودية رصيدها التاريخي الفريد (السياسي والرسمي والشعبي والإنساني) في خدمة القضية الفلسطينية وأهلها.. مقابل ماذا؟.. مقابل لا شيء «!!!!!».. وثالث انحراف في هذا المفهوم المعوج للاعتدال: أن تضحي السعودية بمصالحها وعلاقتها الوثيقة بالأوبك في سبيل تقديرات أمريكية مضطربة لأسواق النفط. وذلك عن طريق زيادات هائلة في الانتاج النفطي السعودي، فإن رفضت السعودية ذلك صاحوا: ان السعوديين متطرفون نفطيون، وثم ينزعون عنهم (صفة الاعتدال)، بل يطالب أعضاء في الكونجرس بمحاسبة السعودية، على حين أن الأمريكان أنفسهم متطرفون: بهذا المقياس.. يقول روبرت روبرتسون نائب شركة (شيفرون) النفطية الأمريكية: «ان الحكومة الفدرالية تحظر على الولايات الأمريكية: التنقيب عن النفط واستخراجه، ولو سمح للولايات باستخراج النفط لتوافرت في الأسواق الأمريكية كميات كبيرة منه».. فمن (المتطرف النفطي) في هذه الحالة؟!

وليتكثف الضوء على نقطة مركزية في هذا السياق وهي: ان السعودية نظام ملكي، أي أن الاعتدال ـ بمفهومه الصحيح الأصيل ـ من طبيعته، بل يتعزز الاعتدال بوصف آخر وهو (المحافظة)، فكيف يتهم الاعلام نظاما معتدلا محافظا بقلب أنظمة حكم؟.. ان حرفة تغيير الأنظمة بالقوة هي من اختصاص (الراديكاليين)، فهل السعودية أصبحت دولة راديكالية.. عليكم أن تتفقوا أولا: هل نحن معتدلون محافظون أم راديكاليون ثوريون؟!

2 ـ بالنسبة للراديكالية، فقد أطلق إعلام غربي ـ وعربي ـ هذا الوصف على أنظمة سياسية عربية ـ وغير عربية ـ (ظاهرها معاداة الغرب ومناهضة مصالحه، وباطنها العشق والود وتبادل المصالح والمنافع والمعلومات) الخ.

والوضوح جد مهم ها هنا. وهو وضوح يستوجب ضرب مثلين (سوريا وإيران).. فالاعلام الغربي ـ وتابعه العربي ـ يصف هذين النظامين بأنهما راديكاليان أو ثوريان، فهل هما كذلك في حقيقة الأمر؟.. من مفاهيم الراديكالية أنها (مذهب سياسي مثالي يقدّم الايدلوجية على المصلحة ولا يرضى بالمكاسب النسبية ولا الحلول الوسط)، فهل تُدار السياسات السورية والإيرانية بهذا المنطق؟.. لا.. طبعا:

أ ـ الهدف المركزي للسياسة الخارجية السورية هو: استعادة الجولان.. وفي سبيل ذلك أجرت مفاوضات مع اسرائيل منذ مدريد وحتى الآن، وبينما كان الاعلام يظهر النظام السوري في صورة راديكالية، كان الواقع السياسي مغايرا لهذه الصورة. فقد قال أيهود أولمرت: «ان المفاوضات مع سوريا تجري وراء أبواب مغلقة.. وهي مفاوضات تتم وفق أعلى مسؤوليات الجد والعمق والمسؤولية والوضوح».. فالسياسة السورية تدار ـ من ثم ـ وفق منطق (نفعي) لا راديكالي.

ب ـ ويظهر الاعلام العلاقة بين امريكا وإيران وكأنها مقدمات لـ(حرب حتمية).. وحقيقة الأمر ليست كذلك.. فثمة مباحثات مكتومة بين الطرفين مجالها كل شيء تقريبا.. ومن ثمار هذه المباحثات: التهدئة النسبية في العراق.. والتعاون على إنجاح مؤتمر ستوكهولم الخاص بالعراق.. ومباركة إيران للمفاوضات السورية الاسرائيلية.. والتنسيق الخفي على إنجاز اتفاق الدوحة.. و. و. و.. وهذا منطق (نفعي) لا راديكالي في السياسة الايرانية: منطق الأولوية المطلقة لمصالح (الدولة الايرانية)، ولا مجال للشعار الراديكالي في صميم هذه الحسابات.. لكن الإعلام آثر الغش والتضليل والتجهيل من خلال مرضه الأول ذاك (مرض المفردات المضللة).

ثانيا: المرض الإعلامي الثاني هو: (التعتيم الإعلامي) على (جرائم الإعلام) في الاضرار بالمصالح الحيوية الثابتة للأمة.. ولدفع الإيهام نقول: نحن بنا غيرة حقيقية على الاعلام فهو مهنتنا التدريسية، وهو مجال ممارستنا الكتابية، وهو ـ في تقديرنا ـ من أعظم عناصر القوة في عصرنا وعالمنا، بيد أن (الحقيقة) أعظم عندنا من الإعلام: حقيقة تقديم الحقائق والمعلومات للناس بما لا يزيف جوهرها وصورتها.. وبهذا المعيار يصعب وصف الإعلام العربي بأنه خدم الحقيقة والرأي العام في مجمل القضايا التي تعاطاها. فقد كان له دوره السلبي، بل التضليلي في الصراع العربي الاسرائيلي ـ في الحرب والسلم ـ وفي العلاقات البينية بين الدول العربية، وفي صورتنا المقدمة للغرب، وفي صورة الغرب المقدمة إلينا.. وفي الأزمات السابقة، والأزمات الراهنة، ومنها أزمة لبنان.