العالم الإسلامي بعيون أميركية

TT

السؤال الذي يحاول البعض فرضه هو: ألا تثبت قرارات السياسة الأميركية الخارجية أنها دولة تعادي الدين الإسلامي؟ الإجابة الأميركية تؤكد على أنها ليست علاقة عداء بل هي علاقة احترام وسعي دائم لتثبيتها. ومع أن هذه الإجابة صادقة إلا أنها غير مفيدة وذلك لأنها تجيب على سؤال منتقص الصحة.

نحن في الولايات المتحدة نستطيع أن نؤكد على قولنا هذا من خلال أعمالنا. فالإسلام هو جزء هام من تركيبة المجتمع الأميركي، حيث يؤمن به عدة ملايين من الأميركيين، الذين يمارسون شعائره ويمتثلون لتعاليمه بحرية وأمان. الشواهد الملموسة عديدة، فبالإضافة إلى وجود أكثر من ألف ومائتي مسجد ومئات المدارس التي تعنى بتدريس الإسلام واللغة العربية، فإن الإسلام يتفاعل مع الأديان الأخرى ويتعاون معها من أجل مصلحة المجتمع الأميركي. فتلك المشاركة في بناء المجتمع لم تذهب هباء بل تعيش في الضمير الأميركي، ونجد الدلالات في أماكن وظروف غير متوقعة. فالقرآن الكريم ـ على سبيل المثال ـ يحظى بتقدير المحكمة العليا الأميركية كأحد مصادر سن القوانين عبر التاريخ البشري. كما حاز اهتمام المؤسسين الأميركيين من أمثال الرئيس الراحل توماس جيفرسون الذي لعب دورا حاسما في كتابة وثيقة الاستقلال الأميركي، فقد كان يمتلك نسخة مترجمة من القرآن الكريم في مكتبته الخاصة. تلك النسخة هي ذاتها التي وضع كيث أليسون يده عليها العام الماضي مؤديا اليمين الدستوري كأول نائب مسلم يفوز بمقعد في الكونغرس الأميركي.

وقد حظي أليسون بشرف كونه النائب المسلم الأول في الكونغرس ولكنه لم يعد الوحيد وذلك بفوز مسلم آخر وهو أندريه كارسون بمقعد في الكونغرس الأميركي الشهر الماضي، عن ولاية إنديانا في الانتخابات الاستثنائية. ففي ظل هذا الزخم وجدت نفسي راغبا في قراءة النسخة المترجمة من القرآن الكريم التي كان يمتلكها جيفرسون. بالفعل ذهبت قبل أيام معدودة إلى مكتبة الكونغرس للإطلاع عليها ووجدتني منغمسا في قراءتها. ووجدت الترجمة مناسبة والتفسير المدرج في حواشي الصفحات صادقا ومتماشيا مع ما قرأته من قبل في تفسير الجلالين. ولعل من أكثر ما أثار انتباهي في النسخة التي ترجمها جورج سايل عام 1764 للميلاد والتي أتت في جزءين هو ما أدرجه عن التاريخ الإسلامي. وقد بدا لي سايل موضوعيا في سرده ومدعما ما كتبه بالتواريخ. ولكن أهم ما قرأته أتى في المقدمة التي جاء فيها إكبار للرسول الكريم حين كتب فيها «أنه برغم ما جاء به المشككون إلا أن (الرسول) محمد (ص) يجب أن يوضع في مكانة عالية التقدير وأن يعطى جل الاحترام» ولا ننسى أن المترجم لم يكن مسلما.

قلة من الناس تعرف عن ذلك الجانب من الولايات المتحدة ، بل أن ما أدْرَجْتُهُ هنا ما هو إلا قليل من كثير. فقد جرت العادة على أن يقرأ الناس أخبارا منها ما يثير الحفيظة عن الولايات المتحدة والإسلام، ولكن في مقابل كل خبر يجده البعض مسيئا للإسلام فإن هناك أعدادا لا تحصى من الوقائع والمشاهدات التي تضع الإسلام في قالب إيجابي، ولكنها مع الأسف تمرُّ دون تغطية إعلامية واسعة. هناك سبب مهم وراء ذلك وهو أن الروتيني والطبيعي والإيجابي لا يحظى عادة باهتمام صحافي واسع. وكون الدين الإسلامي جزءا طبيعيا من النسيج الاجتماعي الأميركي فإن الصحافة لا تنظر إلى وجوده في المجتمع وكأنه استثناء يستحق الإشهار، بل هو شيء طبيعي ومقبول لا يثير الاستغراب. فمحاضرات ومؤتمرات التفاهم الديني دائمة الانعقاد في الجامعات والكنائس والمساجد سعيا إلى فهم حقيقة الإسلام وطبيعته التي تعتمد على التسامح والسلام. كما أن مثل ذلك التفاعل الدائم والطبيعي للإسلام داخل المجتمع يساهم على تفنيد ما أُلصِقَ به من تهم باطلة بسبب أشخاصٍ ادّعوا أنهم يقتلون الناس ويدمرون البنيان باسم الإسلام.

إذن بإمكاني التدليل على أن العلاقة بين أميركا والإسلام صحية ولكن علامات الاستفهام لن تقف بعد ذلك. فالمشكلة تكمن في أن أي إجابة لن تكون شافية أبدا لأن السؤال في الأساس هو سؤال سطحي يسعى إلى إحداث شرخ بين الشعوب الإسلامية والولايات المتحدة. فعلاقة الولايات المتحدة بالدين الإسلامي لا يمكن أن تحدد بشكل مطلق ولا يمكن الوصول إلى حكم مُبَسَّط بخصوصها لأنها علاقة لها أبعاد كثيرة ومستويات متعددة. ولكن بما أن السؤال يهدف إلى الحكم على توجهات الولايات المتحدة السياسية فمن الأجدر تقييمها من خلال قرارات السياسة الخارجية، أي على مستوى العلاقات الدولية، وهو المستوى الذي يحدد طبيعة وحدود الخيارات المتاحة لتعامل الدول بعضها ببعض. والولايات المتحدة ليست فريدة في ذلك فجميع الدول تعمل من خلال أسس وقواعد ومبادئ العلاقات الدولية التي هي النظام المقبول عالميا. فتلك المبادئ تفترض أن الدولة – أيا كانت تلك الدولة – هي السلطة الأعلى لما لها من سيادة واستقلال على أراضيها ، فهي عادة تمارس سلطاتها المطلقة عليها من خلال حكومتها الشرعية التي تقف مسؤولة عن حياة ومصير شعبها.

وعليه فإن السؤال الأفضل في هذه الحالة ربما يكون في صيغة مشابهة للسؤال التالي: ما هي طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة ودول العالم الإسلامي؟ لعله من المفيد النظر في علاقة الولايات المتحدة بمنظمة المؤتمر الإسلامي المعنية بقضايا الدول الإسلامية. فقد عينت الإدارة الأميركية أول مبعوث رئاسي إليها وهو صدى قمبر الأميركي المسلم الذي سيعمل على إبقاء خطوط التواصل المباشر قوية بين الإدارة الأميركية ودول العالم الإسلامي. فمن المهم لدى الإدارة الأميركية أن تستمع إلى ما يهم العالم الإسلامي وأن تفهم بشكل مباشر آراءه. ورغم هذه الإجابة التي توضح أهمية هذه العلاقة كجزء من منظومة أكبر لعلاقة الدول ببعضها البعض إلا أنها غير كافية لأن الإجابة غير محددة بشكل دقيق. العيب هنا يبقى في السؤال الذي لا يزال يفتقر إلى التحديد، فالولايات المتحدة دولة وأما منظمة العالم الإسلامي هي منظمة عالمية وليست حكومة تسود وتحكم الدول التي تنضم إلى عضويتها. فهي تفتقر إلى السيادة والاستقلال، ووجودها يعتمد بشكل كلي على أعضائها. إذن لابد من أن يلتزم السؤال بالاستفسار عن علاقة الولايات المتحدة بدولة إسلامية محددة. هنا أود التنويه إلى عدم الانزلاق في مصيدة تعميم الإجابة لتصبح مقياسا يطبّق على علاقة الولايات المتحدة بجميع الدول الإسلامية لأننا سنجد تضاربا مقلقا في الاستنتاج فلكل دولة خصائصها ولكل علاقة ثنائية مع الولايات المتحدة مقوماتها الخاصة.

إذن علاقة الولايات المتحدة تهتدي بأسس العلاقات الدولية بشكل عام، أما قراراتها فتختلف باختلاف الحالة. وعليه يجب النظر في علاقة الولايات المتحدة مع كل دولة إسلامية على حدة، وإن اعتقد شخص أن هناك خصائص مشتركة في سياسة الولايات المتحدة تجاه كل دولةٍ إسلامية في حين تنعدم تلك الخصائص مع الدول غير الإسلامية فبإمكانه حينها طرح فرضيته ولكن ستقع عليه مسؤولية إثباتها. وللتأكيد، فإن واقع الحال هو أن السياسة الأميركية تجاه كل دول إسلامية تخضع لنفس المعايير في التعامل مع أي دولة أخرى ومنها الدول غير الإسلامية، أي من خلال إطار عمل السياسة الخارجية التي تعمل بمبادئ العلاقات الدولية. وعلى أي حال لمن أراد، فإن له مطلق الحرية في إجراء دراسة وبحث علمي للنظر في المعايير مع مراعاة أن الدول الإسلامية متنوعة في أساليب حكمها من نظام حكم ديمقراطي إلى رئاسي إلى ملكي ولكل منها مصالحه الخاصة والتي قد تختلف ـ بل ربما تتعارض ـ مع غيرها من الدول الإسلامية الأخرى. وفي نفس الوقت يجب علينا أن نُُبْقي في الحسبان أن تلك الدول الإسلامية هي الأخرى تتعامل مع الولايات المتحدة من خلال مبادئ العلاقات الدولية وليس من خلال الشريعة الإسلامية.

في المحصلة فلا يمكن أن نستنتج أن الولايات المتحدة تعادي الإسلام لأن مبادئ العلاقات الدولية لا تضع الدين كمحدد أساسي لتحقيق المصالح الوطنية للدول سواء كان بالنسبة لأميركا أو لأي من الدول الإسلامية. ويبقى معيار الحكم الموثوق يعتمد على علاقة الولايات المتحدة بالإسلام داخل أميركا والذي تحدده الحقوق والمسؤوليات المناطة بالإسلام في هذا المجتمع. فالولايات المتحدة توفر للإسلام حرية كاملة ودائمة كغيره من الأديان في هذا المجتمع المرحِّب. أما محاولة استشفاف طبيعة تلك العلاقة من خلال تحليل انتقائي للسياسة الخارجية الأميركية فإنه يؤدي إلى استنتاجات متناقضة وحكم خاطئ لا يستند إلى منطق نيِّر.

* من فريق التواصل الإلكتروني

وزارة الخارجية الأميركية