الخطب الأعم.. والحدث الجلل

TT

شيئان لو بكت الدماءَ عليهما

عيناي حتى تؤذنا بذهاب

لم تبلغ المعشار من حقيهما

فقد الصحاب وفرقة الأحباب

رحمك الله يا أبا هشام (أخي معالي الدكتور/ صالح بن عبد الله المالك)، كنت توأماً لروحي ـ اختار كلانا صاحبه منذ زمن الشباب والدراسة.. اخترتني لما فيك من نبل الأخلاق، وكريم السجايا.. ورجاحة العقل.. وكنت ممتناً بهذه الصحبة، سعيدا بهذه الصداقة.

منذ التقيتُ بك ونحن طلاب علم في الولايات المتحدة الأمريكية.. ما غبت عن خلدي يوماً.. وما نسيت ما تمتاز به من علم وفضل، وذكاء، وألمعية، ونبوغ أبداً.

***

التقينا في طلب العلم.. وكنت أنت ـ كما هي طباعك اجتماعيا، فتخصصت في علم الاجتماع.. وكم كنت به شغوفا.. لكنك كنت للغة العربية عاشقاً ملهماً، متمكناً، مدافعاً. وكأنك فيها متخصص أيضاً ـ لكنه:

الموتُ يختار النفيس لنفسه

كما نختار نحن، فما اعتدى

قد نال منا درة مكنونة

كانت لأمثالها الدراري حُسّدا

درة الفضائل.. درة نادرة في الوفاء، والصدق، والإخلاص يا أبا هشام..

الآن.. أنت في رحمة الله مع الصدّيقين والشهداء ـ بإذن الرحمن الرحيم ـ بعد أن كنت معنا في رحاب العمل من النوابغ الأذكياء..

كم جمعتنا لجان العمل وفرقه.. وكم كنت ـ رحمك الله ـ العضد المساند، والدرع الواقي، والعمل المعطاء.. كنا نعوّل عليك كثيراً في تأصيل ما نناقش من القضايا.. ونرى رأيك الراجح في ما نختلف فيه من أمور..

رحمك الله.. حُرمنا بفقدك من ثرائك الفكري.. ودفقك العلمي.. وروعة أسلوبك اللغوي.. كم كنت رحب الثقافة، كما كنت رحب الفكر، رحب القلب، رحب الجود في العلم والجاه.. وكأنك نفذت قول الشاعر:

واصنع لنفسك قبل موتك ذكرها

فالذكر للإنسان عمر ثان

***

يا أبا هشام.. وأنت في عالم غير عالمنا الأرضي.. كأنك الذي قال فيه شوقي:

اجعلك رثاءكَ للرجال جزاء

وابعثه للوطن الحزين عزاء

ثُكل الرجال من البنين، وإنما

ثكل الممالك فقدها العلماء

دار الذخائر كنت أكمل كتبها

مجموعة، وأتمها أجزاء

لما خلت من كنز علمك أصبحت

من كل أعلاق الكنوز خلاء

ذخيرة في كل شيء.. لكن حتى المرض أراد ـ بمشيئة الله ـ أن يجاور هذه الذخيرة.. وأن يختلط بهذا الجسم.

حين حل به المرض منذ عام ونصف لم يكن ـ رحمه الله ـ مريضاً كعامة المرضى ـ يخضع للفحص مستسلماً، ويتناول الدواء صامتاً، بل كان لشيء يميزه عن الجميع يراجع مراكز أخرى للطب والعلاج، ليتأكد ويناقش الأطباء في ما يشخصون عنده، وما يقولون عنه، وما يصفون من علاج.

كان ـ رحمه الله ـ مناقشاً فصيحاً.. مدققاً أريباً.. حتى في المرض والدواء.. إذ كان أيضاً يناقش ويسأل عن اسم الطبيب المعالج وشهرته.. والدواء الموصوف ومكوناته، حتى كأنه صيدلي متخصص، وكنت أتعجب حين يشرح لي بالتفصيل عمل بعض أجزاء الجسم، وعلاقة كل منها بالآخر، وكأني أستمع إلى طبيب متخصص في علم التشريح..

الوطن يفقد الكثيرين من الناس كل يوم.. لكن فقد مثل هذا الإنسان أكبر خسارة، وأعم جزعاً من كثير غيره، لأنه يمثل الوطن أعظم تمثيل، في العلم والذات المعرفية، والثقافة، ونموذج الشخصية النبيلة، والصورة الراقية لهذا الوطن الكبير.

خسارة الوطن فيك كبيرة.. وخسارتي فيك وحدي عظيمة، فلقد كنت على مدى هذا العمر شريكاً لي في أفكاري.. ملازماً لنفسي.. ما غبت عني.. ولا أنسى يوماً ما كنت تتحدث به معي.. أو ما قدمته من ثروة فكرية لي..

لا أنسى إهداءك لي ما سميته (الإخوانيات)، هذا الحشد من القصائد الشعرية التي تنم عن ذاتك النبيلة، وخصالك الكريمة.. وعلاقاتك الحميمية بالجميع، حتى كان العنوان: (إخوانيات).

نمْ ملء جفنك فالغدو غوافل

عما يروعك، والعشيّ غوافي

في مضجع يكفيك من حسناته

أن ليس جنبك عنه بالمتجافي

واذهب كمصباح السماء، كلاكما

مال النهار به ـ وليس بطافي

الشمس تخلف بالنجوم، وأنت

بالآثار، والأخبار، والأوصافِ

***

في رحمة الله مستقرك.. وفي عالم الطهر والراحة بقاؤك، والدعاء مستمر لك.. والأرواح ستبقى متصلة بك، وأنت الذي قال فيه أبو الطيب المتنبي:

من كان ذا نفس كنفسك حرة

ففيه لها مغن، وفيها له مسل

وما الموت إلا سارق دق شخصه

يصول بلا كف، ويسعى بلا رجل

رحمك الله يا أبا هشام.. ومكننا أن نلقاك في جنات النعيم.. وما أطيب هذا اللقاء، وما أكرم جوار الله..

* وزير التربية والتعليم السعودي سابقا