المصالحة الفلسطينية التي لا يراها أصحابها

TT

كان الحدث اللبناني ولا يزال، حدثا هاما، ليس لأنه فتح باب حل الأزمة اللبنانية الداخلية فقط، بل لأنه أشار أيضا إلى تغير أساسي في السياسة الأميركية. العنوان الأساسي في هذا التغير، هو الانتقال من سياسة الضغط والحصار والسعي إلى إسقاط الخصوم، إلى سياسة التفاهم وحل المشكلات، لعل المناخ الذي يوفره التفاهم، يؤدي إلى إقناع الخصوم بتغير سياساتهم. ويميل البعض إلى إطلاق وصف «الهزيمة» على هذا التغير في السياسة الأميركية.

وسواء كان الأمر هزيمة أو تغييرا في السياسة، فإن انعكاساته على حلفاء السياسة الأميركية جاء واحدا، وهو الإدراك أن الإدارة الأميركية تخلت عنهم. وحين برز ذلك واضحا في لبنان، كان من نتائجه انعقاد لقاء الدوحة، ونجاح الوساطة القطرية في زمن قياسي، واتفاق من اعتقد الكثيرون أنهم لن يتفقوا.

أثار النجاح اللبناني مقارنة فورية وسريعة مع الوضع الفلسطيني (خلاف فتح وحماس)، فإذا كان الجهد العربي قد نجح في حل أزمة لبنان، فلماذا لا يكون هناك جهد عربي مماثل ينجح في حل الأزمة الفلسطينية؟ وقد تم طرح المقارنة في الإعلام بدافع «تفاؤلي» أو «منطقي»، وغاب عنها المضمون السياسي الذي مهد لها، والمتعلق بتغير السياسة الأميركية، من نهج دعم الحلفاء إلى نهج التخلي عنهم. وبينما أدرك الساسة اللبنانيون بسرعة فائقة (وليد جنبلاط وفؤاد السنيورة) طبيعة التغير الأميركي، وانسجموا معه، وسعوا إلى الاستفادة منه، إلا أن الساسة الفلسطينيين برهنوا عن جمود لا مثيل له، ومرت الأحداث عليهم وكأنها لا تعنيهم، وواصلوا التصرف حسب قواعد سياسية تغيرت وزالت ولم يعد لها وجود.

حين ذهب الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى واشنطن، والتقى مع الرئيس بوش، وطلب منه التدخل لتخفيف التعنت الإسرائيلي في المفاوضات الجارية، وطلب منه بشكل خاص الضغط على إسرائيل لوقف الاستيطان، رفض الرئيس بوش التجاوب مع مطلبه. أبلغه بلغة دبلوماسية فجة، أنه لا يتدخل في التفاصيل، وأنه يهتم بالصورة الكلية فقط. وكان أول من عبر عن اليأس من هذه السياسة الأميركية، هو الرئيس الفلسطيني نفسه. ولكن الرئيس الفلسطيني رفض استخلاص النتائج المنطقية من هذا الموقف. اعتبر أن التأييد الأميركي لإسرائيل هو موقف تقليدي، ولم يلحظ التخلي الأميركي عنه وعن مطالبه. ثم جاء الحدث اللبناني، وتكرر موقف التخلي الأميركي عن الحلفاء، وبالرغم من ذلك، لم يلحظ المسؤول الفلسطيني أن الأمر ليس مجرد تأييد تقليدي لإسرائيل، بل هي سياسة أميركية جديدة، لا بد من التقاط معانيها والتعامل مع نتائجها، فواصل السياسة نفسها، والتكتيك نفسه، وولد هكذا حدث دراماتيكي في بيروت، بينما ولد جمود دراماتيكي في رام الله.

انعقد بعد هذه التطورات المجلس الثوري لحركة فتح، وكان انعقاده مناسبة لدرس التغيرات بعد أن أصبح الدرس واضحا بجلاء أمام أعين الجميع. وكان حريا بالمجلس أن يناقش القضايا الأساسية، وأن يخرج بخطط عمل جديدة بشأنها. ولكن الذي حدث أن نقاش القضايا قد تم، ولكن خطط العمل بقيت على حالها. خطط قديمة من أجل التعامل مع وضع جديد تغيرت فيه القواعد كلها.

لقد واجه المجلس الثوري لحركة فتح القضايا التالية:

أولا: المصالحة الفلسطينية الداخلية، ومن أجل إنهاء الانقسام القائم بين غزة ورام الله. لقد كانت السياسة الأميركية (والإسرائيلية) تهدد الرئاسة الفلسطينية بأنها ستحاصر، كما هي غزة محاصرة الآن، إذا هي أقدمت على أية مصالحة مع حركة حماس. وكان هذا التهديد وراء إحجام الرئاسة الفلسطينية عن التجاوب مع كل دعوات الحوار العربية السابقة، وكانت آخرها الوساطة اليمنية، والتي انتهت بفضيحة إعلامية عبر شاشات التلفزيون، حين تم التوقيع على الاتفاق، وتم التراجع عن الاتفاق، في لحظة واحدة. وكان حريا بالمجلس الثوري لحركة فتح أن يقف بجد أمام هذه المسألة الحيوية، وأن يتخذ بشأنها قرارا حاسما بعد التغير الأميركي الذي حصل، وفي ظل مناخ عربي قابل لرعاية مصالحة فلسطينية مماثلة لمصالحة لبنان. ولكن الإشارات الأولى تفيد بأن الموقف الفلسطيني بقي على حاله، واستمر تكرار تلك اللازمة المملة، التي تطالب حماس بأن تتراجع أولا عن موقفها، وعن «انقلابها». هكذا ... بمبادرة كريمة منها، من دون اتصال. من دون بحث. من دون تفاوض. ومن دون تبادل أي كلام. وهو موقف يعني الرفض القاطع للمصالحة، حتى لكل من لديه ذرة فهم واضحة.

ثانيا: المفاوضات مع إسرائيل. لقد أصبحت هذه المفاوضات مجال تندر فلسطيني وعربي وعالمي، وتحولت من مفاوضات إلى ما يشبه الوظائف المدرسية، وانحصرت مؤخرا في ضرورة تحديد مواصفات الدولة الفلسطينية، وهي مواصفات يقرأها التلاميذ في أي كتاب تعليمي، ولكن كونداليزا رايس تسعى إلى اختراع البارود من خلال العمل على إنجازها. وقد طالب اعضاء كثيرون في المجلس الثوري بضرورة وقف هذه المفاوضات (كوسيلة للضغط)، وطالب البعض الآخر بالدمج بين المفاوضات والمقاومة كوسيلة ضغط لازمة، ولكن القرار القديم بقي في النهاية هو السائد. الاستمرار في المفاوضات، لماذا؟ لأن وقف المفاوضات يعني أن تتحول الضغوط الدولية نحو الفلسطينيين بدل الإسرائيليين!! بينما تشهد الوقائع كلها أن الإسرائيليين معفيون رغم كل تجاوزاتهم من أي ضغط دولي. وهو أمر يعني بقاء الأمور على حالها، مفاوضات بعد مفاوضات، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.

ثالثا: مؤتمر حركة فتح. يشكل انعقاد مؤتمر فتح ونجاحه محطة أساسية في تمتين الوضع الفلسطيني. وما رشح عن مناقشات المجلس الثوري يفيد بأنه تم تأكيد انعقاد المؤتمر قبل نهاية هذا العام، ولكن من دون أن تحظى مناقشة مشكلات انعقاد المؤتمر (البرامج المتناقضة، الكتل وصراعاتها) بأي حوار جدي. وبشرنا أحد الأعضاء البارزين بالقول إن كل قضايا المؤتمر قد نوقشت، وبقيت قضية واحدة فقط هي قضية العضوية، بينما يعرف الكل أن قضية العضوية، في فتح وفي المؤتمر، هي القضية الأساس التي تتولد منها كل المشاكل والخلافات، الأمر الذي يعني أن تحديد موعد انعقاد المؤتمر قد لا يكون مؤكدا. وحين تبقى حركة فتح على حالها، فإن قدرتها على مواجهة المشاكل ستبقى قدرة معطلة.

رابعا: قضية الحكومة. حظيت قضية حكومة سلام فياض بنقاش واسع في اجتماعات المجلس. وبدا من خلال الإعلام وكأنها القضية الأولى والمركزية. وهي جديرة بأن تكون كذلك، لو أن النقاش انصب حول توجهها لإقصاء جيل المقاومة والثورة عن دوائر السلطة الفلسطينية كلها، واستبداله بجيل آخر لا علاقة له بالمقاومة وأهدافها وتراثها. ولكن النقاش انصب حسب الإعلام، على كونها حكومة مستقلين، وعلى كونها حكومة تخلو من وزراء لحركة فتح. وتركز النقاش في النهاية حول وزارات بعينها يطمح لشغلها أشخاص بعينهم. وبهذا غاب الموضوع السياسي المتعلق بهوية الحكومة، وبرز الموضوع الذاتي إلى الواجهة، وبالرغم من أن موضوع الحكومة يشكل مفصلا أساسيا في رسم سياسات فلسطينية جديدة تقطع مع السياسة الأميركية (والإسرائيلية) وشروطها التي تفرض كلها من دون مقابل.

وباختزال النقاش حول كل هذه القضايا، تكون حركة فتح قد فوتت فرصة نادرة لإصلاح نفسها، وإصلاح سياسات سلطتها، وبرهنت عن عجز ملموس في قراءة خارطة التغيرات من حولها.

إن ما حدث في لبنان، لم يكن مجرد تلاق بين فرقاء متخاصمين كانوا يرفضون التلاقي من قبل. إنه تغيير جوهري في السياسة الدولية انعكس مباشرة على السياسة اللبنانية. وما يجدر أن يحدث في فلسطين هو الشيء نفسه، فالسياسة نفسها تحتاج إلى تغيير بعد أن تغيرت الظروف من حولها، بحيث أصبح التغيير ممكنا، حتى لمن لا يريد أن يتحدى. أما الذين يدعون لتكرار الشكل في التجربة اللبنانية، أي التلاقي في قطر أو سواها، من دون تغيير الموقف، فهم يعبرون عن قصر نظر أصبح سمة بارزة في سياسة السلطة الفلسطينية.