حكومة المالكي في نصف دورتها

TT

منذ أيام أكملت حكومة المالكي عامين من عمرها، وربما هي تعيش الآن أفضل حالاتها، فقد ابتعدت عن شبح الحرب الأهلية والاقتتال على الهوية. وبدلاً من ان تكون الحكومة مهددة بالانهيار بسبب الانسحابات التي تمت منها فان القوى الرئيسية تنتظر على بابها لكي تعاود الانضمام اليها. أما احتمالات تغييرها أو تبديلها فهي ليست لا تلوح بالأفق فقط، بل ان الراجح أن هذه الحكومة ستكمل دورتها حتى الانتخابات العامة نهاية العام القادم، لأسباب عدة من بينها أنها تعيش الآن لحظة توافق لم تشهدها الساحة العراقية من قبل، ثم ثانياً إن الأطراف خارج الحكومة هي الآن تزداد لهاثاً للانضمام اليها كلما اقترب موعد الانتخابات انطلاقاً من بديهية عراقية خالصة وهي ان تأثيرك يزداد كلما كنت في السلطة وليس بتخلصك من أدرانها وأخطائها، وايضاً لكون القابضين على السلطة هم غالباًُ ما يكونون الأكثر حظوظاً في إعادة إنتاج أنفسهم ثانية، موظفين في ذلك إغراء السلطة وإمكاناتها. هذا من جهة ومن جهة أخرى فان الحكومة محظوظة بمعارضيها الذين لهم قدرة على الانشطار لا على التوحد، حيث أن كل التصدعات والانشقاقات التي خرجت عن الكتل والائتلافات لم تنجح في أن تنتظم في محور أو قوة معارضة تخيف أو تهدد أغلبية الحكومة. أما على المستوى الإقليمي فلا توجد اي رغبة للدفع أو التأثير باتجاه تفعيل أو توظيف عناصر داخلية لاستبدال هذه الحكومة، كون ذلك سيفتح الباب لخيارات غير محسوبة وجلها غير مرغوب. أما دولياً والعامل الأهم بلا شك الأمريكي، فالأمريكان في سنتهم الانتخابية ميالون الى إبقاء الأوضاع في العراق دون هزات دراماتيكية تنعكس سلباً على حظوظ الجمهوريين وفرصهم في الفوز ثانية. من هنا حدث إجماع أو اتفاق ضمني تشترك فيه الأطراف المحلية والإقليمية والدولية بأن تغيير الحكومة سيفتح الباب على فراغ تطيله مساومات قوى سياسية من الصعوبة بمكان أن تتفق على بديل، وهذه التجربة مررنا بها قبل تشكيل هذه الحكومة حيث أنفقت خمسة أشهر ما بين الانتخابات والتأليف.

هذان العاملان، ارتفاع شعبية الحكومة وحيازتها لإجماع وطني وتضاؤل وانعدام فرص الإطاحة بها، المفترض أن من شأنهما جعلها تستثمر هذا الارتياح والرصيد غير المسبوق في التحرك بجدية وفاعلية باتجاه توفير الحاجات الأساسية ومعالجة الاختلالات الكبيرة التي إذا ما تكلست وأخذت صفة الدوام فإنها ستعيق الدولة إعاقة دائمة لا ينفع معها صلاح وتجعل العراق يستقر ضمن خانة الدول الفاشلة. فالتحسن الأمني الوجل وحصول حالة تأييد شعبي وسياسي لجهد الحكومة وتحديداً لرئيسها في فرض القانون ومنع الوجود المسلحة خارج اطار مؤسسات الدولة وإيقاف التدخل والتمدد على سلطاتها ووظائفه، وارتفاع تهمة الانحياز الطائفي عنها عندما عالجت وعاملت الجميع بتساو وكذلك ارتفاع صوتها، وان بتردد، ضد التدخلات الإقليمية، وان حقق ذلك حالة رضى غير مسبوق، إلا أن ذلك لن يستمر طويلاً، إذ يظل الإنسان في النهاية حاجات ولا يمكن فقط له ان يتغنى بالإجماع الوطني، أو أن تذهب الحكومة لمؤتمرات العهد الدولي ناشدة الدعم الدولي وهي لم تتحرك بجدية على الاختلالات التي باتت مزمنة، اذ ان الاقتصاد العراقي وبدون جهد وبمنحة ربانية تتصاعد فيه مداخيله من النفط، لذا هو ليس بحاجة الى قيادة تجترح المعجزات بل الى قيادة رشيدة، لا افهم ان العراق وبمداخيله المتصاعدة وبدل ان ينتظر استثمارا لن يأتي كـ«غودو» بدون ان يمهد لمقدماته، لم يشرع للآن بحركة إنشاء إسكان واسعة لا تحتاج تقنيات وتقضي على البطالة، وخصوصاً غير الماهرة، وتنشط عدد من المفاصل والمرافق المرتبطة بها من جهة وتحل مشكل اجتماعي ينتجه السكن السيئ من جهة أخرى، فإذا كان عبد الكريم قاسم (58 ـ 1963) فاخر عند مقتله بأنه بنى للعراقيين سبعة وثلاثين ألف وحدة سكنية، وهذا قبل نصف قرن، فان حكومات ما بعد التغيير ولخمس سنوات ايضاً لا تستطيع ان تفاخر ببنائها لسبعة آلاف وحدة سكنية وبميزانية بلد بعشرات المليارات وليس ببضع ملايين كما كان، ولا يقبل ان يحتكر العراق ولثلاث سنين وفق مؤشرات الشفافية الدولية المرتبة الأولى في الدول الأكثر فساداًُ، فعلى الأقل لنعمل على تخفيضه للمرتبة الثانية! كما ان بلد ترتفع مداخيله وتظل فيه مؤشرات البطالة عالية تمثل مفارقة لا تفهم، وكذلك يستعصي على الفهم ان بلد السواد، سمي من تشابك عروق الزرع فيه، ان يستورد كل حاجاته الغذائية، أربعة مليارات دولار تنفق، تعادل نصف ميزانية الأردن، على بطاقة تموينية بدون ان يصل نصفها للمواطن، ناهيك من تردي نوعيته، ونعجز في أن ندور هذه المبالغ لتحفيز الزراعة المعطلة والمنهارة. بلد فيه ثاني احتياطي نفطي في العالم يستورد نصف حاجاته من النفط المكرر ولخمس سنين بدون أن تنشأ مصاف كلفتها بثمن استيرادات سنة واحدة، وكذا الكهرباء وكذا الماء والصرف الصحي والتعليم والصحة والقائمة تطول بدون ان تنتقص رغم الصبر ومرور السنين.

والأدهى هو إصابة الدولة بالإعاقة الدائمة عبر المحاصصة السياسية الضيقة التي تم تكريسها في كل مرافق الدولة العراقية والتي تجعل في العراق، والعراق وحده الصدفة، إنسانا من الشارع وكيل وزير أو سفيرا، فعاد تقديم أهل الولاء على أهل الكفاءة، ولا ادري اي دولة ستبنى بالاستمرار بهكذا نهج.

وأخيراً إن الأجواء الايجابية و«الربيع السياسي» لا يمكن أن تدوم أو أن يراهن عليها، فالإنسان في النهاية هو مجموعة حاجات لا مجموعة شعارات.