.. ولو غضب منك الرجل الحكيم

TT

أضع بجوار سريري نصا للشاعرة أمل الجبوري، ألجأ إليه كمحفز حينما يحتدم الصراع بيني وبين النوم، وتستعصي فاكهة الليل السرية.. تقول أمل:

«النوم رجل حكيم ليس سهلا أن يصل إليه الجميع

ينتظر ساعات على باب اليوم

حاملا أدواته السحرية

كي يغسل وجه المدينة بالخدر.

يجمع الأجساد، يعلن وحدتها فيما ينهار الجدار

النوم يقوم بإخفاء القاتل والقتيل في جبته السوداء، النوم صمت، موت مؤقت

النوم فاكهة الليل السرية والنادرة

النوم سفر حر في ممالك الوعي الباطن

النوم يمسك بسكينة تشبه المرآة

ليكشف الحجاب عن أكاذيب

تتدحرج أمامنا»

أقدم هذا النص أحيانا بين يدي ذلك الرجل الحكيم «النوم» كرشوة لكي يصل حاملا أدواته السحرية، لكن ذلك الرجل الحكيم كثيرا ما يفقد حكمته، فيدعني أتلوى على فراشي كبندول ساعة مجنونة، فالعلاقة بيني وبين ذلك الرجل الحكيم مقطوعة.. لعله قد يئس من إقناع كائن ليلي مثلي بأن ينام قبل أن تنام آخر النجوم في قوافل الغسق، فالليل بالنسبة لي امرأة حسناء تغطي وجهها الحلو بغلالة شفافة تزيده بهاء وتزيدني فضولا، عكس النهار السافر المتبرج الذي تنهش ذاتك فيه آلاف العيون..

سألت المرحوم الفنان طلال مداح مرة:

ـ لماذا كل الفنانين يبدأون الغناء بـ«يا ليل»؟!

فقال بعفويته المعتادة:

ـ لأن وقار النهار لا يستجيب لنداءاتهم، لكن الليل كائن طروب يستجيب لرجاءات المغنين.

ثم راح يفلسف علاقة الغناء بالليل، وهو يؤكد أن الأصوات تزداد عذوبة في سكون الليل، وأن أعذب الأصوات الغنائية لا تنساب إلى دواخله إلا ليلا..

وكان الوقت ظهرا فضغط بإصبعه على جهاز البث لينطلق صوت أم كلثوم:

«سهران لوحدي أناجي طيفك الساري

سابح في وجدي ودمعي ع الخدود جاري»

ثم نظر إلي وقال:

كيف يمكن أن تستمتع بعذوبة هذا الصوت في ظهيرة يدق فيها جرس الباب، أو يتعالى صوت بائع أنابيب الغاز؟!

يومها خضنا في تقسيم المدن، فثمة مدن للنوم، ومدن للسهر، واتفقنا على أن مدينة جدة مدينة تطير النوم، فليلها يغري بالسهر، وجفوة المراقد، ولا بأس فيها أن تسير في ركاب الخيام حتى لو غضب منك الرجل الحكيم..

[email protected]