الدنيا ربيع

TT

الربيع يأتي كل عام بلا انقطاع. رسالة موجهة تقول بأن الحياة تستمر وتجدد نفسها. تتراجع ذكريات شتوية باردة وتتقدم اخرى واعدة بالدفء والحبور.

كل ربيع اتمنى ان اكون شجرة تذبل في الخريف وتسقط اوراقها في الشتاء ثم تورق من جديد في الربيع، تخضر وتثمر وتسر الناظرين. أتمنى ان اكون شجرة ولكن قدري هو أن اكون انسانا. ورغم انني اتقبل انسانيتي شاكرة أتمنى ان تمتد حياتي وتتجدد كما الشجرة.

تحت شمس الربيع الحانية كل شيء يبدو ممكنا. وحين تابعت انباء اجتماعات الدوحة بين الفرقاء والتي افضت الى اتفاق والى انتخاب ميشيل سليمان رئيسا للجمهورية اللبنانية شعرت بأن لبنان هو ايضا شجرة جددت نفسها في فصل الربيع.

لم ازر بيروت قبل عام 1999. وفي تلك الزيارة الاولى هالني ان تكون واجهات البنايات في كافة احياء المدينة تحمل آثار الرصاص والبارود في اعقاب الحرب الاهلية. ورغم قتامة المشهد افقت من نومي ذات صباح واطللت من نافذة الفندق وشهدت عجبا. شهدت طوابير من البيروتيين يمارسون رياضة الركض البطيء على كورنيش بيروت قبل الذهاب الى دوائرهم الوظيفية. وايقنت يومها ان بيروت هي الناس وان ناس بيروت مستعدون دائما لاستقبال ربيع جديد. ولم ازر بيروت مرة اخرى حتى عام 2002 وأدهشني ان 90% من آثار الحرب الاهلية على واجهات البنايات اختفت تماما واعيد ترميم وبناء العمارات واحتفل قلب المدينة بعرس اسمه السوليدير.

وما زالت زياراتي الى بيروت مستمرة وقد اغريت زوجي باصطحابي في زيارة، ثم اغريت ابنتي، وبعد ابنتي اغريت صديقتي المقربة. ومن دون ان اشعر اصبحت علاقتي بالمدينة حميمة تشعرني بالانس والالفة حتى ان لم تمكنني ظروف العمل من الخروج الى قلب المدينة أو التجول في اسواقها. فنجان من القهوة يكفيني وانا اراقب حركة الناس في مكان يعج بالحركة، او تمكن وقفة بالسيارة عند بربر في الحمرا لكي اشتري الفلافل والشاورمة وقارورة اللبن فيتجدد احساسي بأن جزءا من تلك المدينة يحتويني ويعدني بالود والمسرة.

أصدقائي في بيروت لبنانية ارمنية اسمها ليزا، ومسيحية لبنانية اسمها سامية، ودرزية لبنانية اسمها فاتن، ومسلمة سنية اسمها رانية وشيعي لبناني اسمه علي. كلهم بيروتي وكلهم يأكل المناقيش وكلهم لي معه مواقف انسانية تشعرني بأنني محظوظة ان سمحت لي الظروف ان استظل بظل تلك الشجرة احيانا وان اشم هواءها واتجول في شوارعها بحيث اشتاق اليها اذا طال غيابي عنها. فالاماكن مثل البشر الذين يسكنونها. الاماكن لها روح تناديك باسمك.

علمتني الحياة الا اسرف في التوقعات الرومانسية حتى لا ينقلب تفاؤلي تشاؤما. ومع ذلك اجد في اعماقي نغمة متسقة مع ميلي الى تمني النهايات السعيدة. ولا شك ان اتفاق الدوحة هو جزء من تلك النغمة. ولا شك ان جموع الراكضين على كورنيش بيروت تجتمع على هدف واحد هو الرغبة في حياة خالية من العجز والمرض. في الدوحة أعادوا الى الشجرة البيروتية شيئا عزيزا افقدتها اياه انتكاسة شتوية. وفي غضون ساعات نهضت بيروت لتؤكد من جديد ان الاستمرار فكر وحرية وتخطيط وعمل. وسأترك المجال مفتوحا لمن يقرأ هذه السطور ان يصف لنفسه ما فقدته بيروت وما استردته، وكلمات من القرآن الكريم هي: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.