كرسي الاعتراف

TT

هل الاعتراف بالحق فضيلة، أم أنه من صغارة العقل؟!

أعتقد أنه الاثنان معاً.

وبحكم أنني أنشد الفضيلة دون أن أنال شرفها، وفي نفس الوقت أنا صغير عقل (بنمرة واستمارة) ـ ولا فخر ـ، لهذا سوف أقف اليوم لكم خطيباً على كرسي الاعتراف.

فمثلا: منذ أن كنت تلميذاً نجيباً في المدرسة، لا أذكر يوماً أنني تمنيت الخير لزملائي، بل إنني تمنيت من أعماق فؤادي لو أنهم يرسبون جميعاً عن بكرة أبيهم، وأكون أنا الناجح الوحيد في الفصل ـ ولكن مع الأسف حدث العكس ـ كنت أحياناً أكذب، وأطلق الإشاعات، وأرتدي على الدوام ثياب المظلوم، وأتظاهر بالبراءة، وإذا خلوت إلى نفسي أو بمعنى أصح إلى شياطيني، أغلقت الباب ورحت أرقص وأصفق فرحاً وإعجاباً بما وهبني الله من مزايا التدليس.

لم أتورع على الاجتهاد من حفر الحفر لزملائي وأصحابي، ولم أثق أو أصدق المثل القائل: من حفر حفرة لأخيه وقع فيها.. لأنني من كثرة ما حفرت، لم أقع إلاّ ثلاث مرات فقط، ولم أصب من جراء ذلك ولا بأي كسر والمنّة لله، وإنما مرة واحدة أدمي فيها أنفي، والثانية أخذت صفعة خفيفة على صدغي، والثالثة شتيمة تتزلزل لها الجبال، وتحملت كل ذلك ثم انسللت مثلما تنسل الشعرة من العجين وكأن شيئاً لم يكن.

وهذه موهبة لو تعلمون خطيرة، لا يتمتع بها إلاّ من أوتي قلب (أسد)، وجسم (عصفور)، وهذا هو ما تمتعت به ولله الحمد طوال حياتي المتصدّعة.

لا أتنازل إلاّ إذا خفت، ولا أشبع من الأكل والكلام إلاّ إذا أغلق فمي قسراً، ولا أقف احتراماً لأي إنسان إلاّ إذا توسمت فيه المصلحة والعبط معاً.

يعجبني الإنسان الساذج، وأنفر من الذكي، وأتحاشى القوي، و(أطب في بطن) الضعيف.

نفسي على الدوام لوامة، وقدماي على الدوام ركاضتان قفازتان تجريان جري الوحوش، تريدان أن تحوشا رزقها ورزق الآخرين كذلك، ولو كان لها الأمر ما تركت لهم ولا حتى حبة خردل.

أطلب من الله تعالى أن يقصر ما يُدعى (الحظ)، أن يقصره فقط على جنابي، ولا يكون لأي مخلوق على وجه الأرض نصيب فيه لا من قريب أو بعيد، وأن يبغددني، ويجعلني أرفل في دمقس من الحرير، تحف بي كل الوجوه المليحة المغناجة، وأن تشنف أذني الهفهافة كل الأصوات والأوتار الشجية الرقاصة، وتزكم أنفي العزيز كل عطور السماوات والأرض، وتلين أعصابي وعضلاتي كل الأصابع الرشيقة البارعة في فن (المساجات)، وترفه عن روحي كل المبهجات المضحكات المكركرات، وما أن أفتح فمي إلاّ وتتقاطر عليه كل فواكه الدنيا ومشروباتها.

إنها اعترافات شجاعة.

وأمنيات حلمت بها، وعندما حكيتها لعجوز تفسر الأحلام، نظرت لي والخوف بعينيها قائلة:

أبشر يا ولدي (فالحب عليك هو المكتوب)، فقلت لها: اخرسي بلا حب بلا بطيخ، فلا أنا نزار قباني ولا عبد الحليم حافظ.

[email protected]