اضحك الصورة تطلع حلوة

TT

ما زلت على قناعة بأن المصور الوحيد الذي كان في مدينة جدة إبان طفولتي رجل إنساني جدا، حرص جاهدا على إزالة الفوارق بين الناس الذين يقوم بتصويرهم، فلديه خزانة من الملابس المتنوعة التي تضم عُقلا، وعباءات، وكوفيات، ومعاطف، وربطات عنق، وخواتم، وساعات، وحتى أحذية ينتعلها زبائنه الحفاة.. ولذا حينما كنت أجمع صورا لبعض الشخصيات التي كانت تعيش في المدينة في النصف الأول من القرن العشرين لكتابي «جدة.. التاريخ والحياة الاجتماعية»، هالني ذلك القدر من التشابه في الصور، فكل صورة منها تحوي نفس المزهرية البدائية، التي تتصاعد منها زهور ورقية ملونة، يقف الشخص أو يجلس بجوارها بكامل الزي من العقال أو العمامة إلى الحذاء، تماما نفس أجواء الصورة التي التقطت لي طفلا بجوار أبي، وبيننا نفس المزهرية، وقد علقت بشفاهنا نفس الابتسامة التي يحددها المصور لكل الناس قبل أن يدخل رأسه في تجويف من القماش الأسود المتصل بالكاميرا ليلتقط الصورة.

ويبدو أن جل سكان جدة القدامى لم يكن يحلو لهم التقاط الصور إلا شتاء، فالمعاطف توشك أن تكون سمة مشتركة في معظم الصور، ولم يكن قد دخلت إلى المدينة وسائل التصوير الملون، فكان الناس يبعثون بصورهم الأسود والأبيض مع المسافرين إلى مصر ليقوم بعض الرسامين هناك بتلوينها بشكل بدائي يزيد الأمور تعقيدا، فتأتي الصور بعد ذلك من القاهرة وقد توردت الخدود، واحمرت الشفاه، وتلونت العيون بكل ألوان قوس قزح، حتى إن الصورة الوحيدة التي بقيت تذكارا لجدي لا تكاد تشبهه في شيء، فلو كان جدي على الشكل الذي ظهر فيه في الصورة الملونة لكان النسل شهد تحسنا ملحوظا تتوارثه صور الأحفاد.

ويوم ولد محل التصوير الوحيد عشرات المحلات ذات الإمكانات الحديثة ظل الناس لفترة يقاطعونها، وهم يتشبثون بقديمهم ونديمهم ذلك المصور العتيق، فالمصورون الجدد لم يهتموا بالقدر الكافي بـ «هندمة» راغب التصوير، فكانوا يصورون الناس على ما هم عليه، ومن غير مزهرية، أو معطف، وفي ذلك خروج على تقاليد التصوير التي تعودها الناس، وبالتالي ظل ذلك المصور صامدا يلتقط لقمة عيشه من الوجوه العتيقة التي ألفها وألفته، حتى أدركه هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ومضى إلى رحمة ربه تاركا كما هائلا من صور الآباء والأجداد المتشابهة إلى حد التطابق، بحيث يكفي اختيار واحدة منها عشوائيا لتكون رمزا لكل الأجداد.

في هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه السطور تنتصب أمامي واحدة من تلك الصور العتيقة، وعبارة لالكسندر إليوت في الذاكرة تقول: «كل صورة عظيمة ترينا شيئا نبصره بالعين مع شيء ندركه بالبصيرة»، الأمر الذي يؤكد أن ذلك المصور العتيق لم يكن مصورا فحسب، بل كان فنانا كبيرا أشبه بالرسامين العظماء، فهو يظهر الشخص في ركن من أركان الصورة، تاركا المساحة الأوسع من الصورة خالية لندركها بالبصيرة. إنها حكاية زمن مضى بأنسه وناسه، ولم يبق لنا منه في الذاكرة سوى عطر الحكاية.

[email protected]