الخليج ومشكلة الدور المسحور!

TT

معروف عن أهل الخليج أنهم قوم محافظون، ولكن هناك مؤشرات تدل على أن الخليج قد تطرف، آخرها نتائج الانتخابات في الكويت.. الناظر إلى نتائج الانتخابات الكويتية لا تفوته ملاحظة أنه أمام مجتمع يتجه نحو التطرف، وهنا لا أقصد سليمان أبو غيث المتحدث الرسمي باسم أسامة بن لادن والذي كان إنتاجا كويتيا خالصا، أو معتقلي الكويت في غوانتانامو. ولكن أتحدث عن مزاج عام للشارع الكويتي عكسته انتخابات حرة. أول ملامح التطرف هو نبذ المرأة من العمل العام، ومجتمع تهزم فيه المرأة مرتين في الانتخابات لا بد أن يعيد النظر في أحواله. أعرف أن موضوع المرأة في الخليج يحكمه العرف والتقاليد الاجتماعية، وقد نختلف هل هو بالفعل مؤشر حقيقي على التطرف، ولكن ماذا باقي النتائج؟

جرت الانتخابات الكويتية لاختيار أعضاء مجلس الأمة الخمسين موزعين على خمس دوائر فقط، وفق الترتيب الجديد للدوائر الانتخابية. وقالت وكالة الأنباء الرسمية الكويتية إن نسب الإقبال على التصويت في الدوائر الخمس بلغت نحو ستين في المائة. أي أن الكويتيين بغالبيتهم قد شاركوا في هذه الانتخابات، ومن هنا يمكن اعتبار نتائج هذه الانتخابات مؤشرا على الميل العام للشارع الكويتي.

نتائج الانتخابات الكويتية تشير إلى أن الإسلاميين، سنة وشيعة، قد فازوا بأكثر من نصف مقاعد البرلمان الخمسين. وفاز الإسلاميون السنة بحوالي واحد وعشرين مقعدا، أي بزيادة أربعة مقاعد عن المجلس السابق. هذه الزيادة لم تكن للإخوان أو جماعة النائب الإخواني المعتدل ناصر الصانع، وإنما كانت للسلفيين من أمثال عبد الرزاق الشايجي ووليد الطبطبائي. ورغم أنني لست أبدا من مشجعي حركة الإخوان المسلمين، أو أي حركة تتخذ الدين غطاء للضحك على الذقون، إلا أن الحركة في الكويت تمثل أكثر المجموعات الدينية السياسية اعتدالا. أما الإسلاميون الشيعة، فكان واضحا أن جناح التطرف الشيعي الكويتي المتمثل في جماعة «الجمعية الثقافية»، وهو الاسم الحركي لجماعة «حزب الله الكويتي» بقيادة عدنان عبد الصمد، والملتزمة بولاية الفقيه حكما ومنهجا، هو الجناح الفائز. عدنان عبد الصمد وأحمد لاري، هما النائبان اللذان قادا بتحد احتفالات تأبين عماد مغنية، قائد الجناح العسكري في «حزب الله»، في مارس الماضي، والذي كان متهما بمحاولة تنفيذ عمليات إرهابية ضد الكويت قيادة وشعبا، وكان مطلوبا للمحاكمة في الكويت. ومع ذلك، لم يهتم النائبان عبد الصمد ولاري كثيرا بمشاعر الكويتيين، ونصبوا لمغنية سرادقات العزاء. تلك المواجهة الفجة خلقت شرخا طائفيا داخل المجتمع الكويتي، ووترت العلاقة بين الحكومة وبين الشارع الشيعي المؤيد لهؤلاء الذين خرجوا عما سمي يومها بالإجماع الشعبي. فنجاح هذين النائبين، تحديدا، في الانتخابات الكويتية هو مثار تساؤلات جدية يجب التوقف عندها، فهل هو مؤشر لصعود التطرف الشيعي في الكويت؟ أم أنه مؤشر عافية لتيار بلغ أشده على الأرض، وقد اتخذ من احتفالات تأبين مغنية مجرد فرصة للإعلان عن وصوله إلى الساحة، وصول يهدف إلى استعراض القوة لا مجرد الإعلان عن موقف متطرف؟

أما الليبراليون وحلفاؤهم فقد فازوا بسبعة مقاعد فقط، أي أنهم خسروا مقعدا. وكذلك خسرت جماعة أحمد السعدون مقعدا، لتصبح ممثلة بأربعة مقاعد، وهو تيار لا يحسب على الإسلاميين، وإنما على تيار المدانة وقلب العاصمة في الكويت. كل ذلك يعد مؤشرا على التطرف لا على التسامح.

فشل المرأة في الوصول إلى البرلمان، وكذلك زيادة مقاعد السلفيين، وتراجع الليبراليين والشيعة المعتدلين، كلها ملامح تؤيد مقولة أن الكويت قد بدأ يتطرف. فهل ما يحدث في دولة الكويت هو حالة خاصة، أم أن الدول الخليجية الأخرى تشاركها هذه الصفات؟ الموضوع يحتاج إلى جدل واسع ومقارنة بين الوضع الكويتي والوضع الخليجي عامة. في الستينيات والسبعينيات، كان الجنون صفة من صفات السياسة المصرية، فهل انتقلت عدوى الجنون متأخرة إلى معاقل المحافظين في الخليج؟

الدولة الخليجية اليوم في مأزق، رغم تدفق الخيرات والأموال والمستوى المعيشي المرتفع. إذ تبدو كوعاء، يشد الإسلاميون غطاءه ويطيرون به من أعلى نحو دولة الخلافة التي تجمع مسلمي ماليزيا بمسلمي المغرب، ويشد قاعه القبليون والطائفيون إلى تكوينات أقل هي الطائفة والقبيلة. إذن ماذا تبقى للدولة الحديثة إذا كان الإسلاميون يطيرون بربعها إلى فضاء أوسع، والقبليون والطائفيون يشدون ربعين منها إلى القبائل والطوائف؟ ما تبقى من الدولة الحديثة اليوم هو ربع دولة.

أصبحت الدول الخليجية مجتمعات مستوطنات بامتياز. الوزارة الواحدة أصبحت مستوطنة لمجموعة من القبائل، أو للإخوان المسلمين، أو لطائفة بعينها. هناك وزارات أصبحت رموزا للمستوطنات المتعددة القبائل والطوائف، كالدمية الروسية الشهيرة، كل مستوطنة كبيرة بداخلها مستوطنة أصغر وأصغر. ولكي تحل أزمة الدولة التي تنخر فيها القبائل والطوائف لا بد من تفكيك هذه المستوطنات، بدءا من أصغر قطعة في الدمية الروسية إلى أكبرها.

الدولة الخليجية الحديثة والمأزومة تلزمها استراتيجية للتعامل مع سؤال الهوية والمواطنة. يلزمها التوازن والتصالح في أن تكون كويتيا أو إماراتيا أو سعوديا أو قطريا، وتنتمي في الوقت ذاته إلى قبيلة كذا؟ (ضع من عندك ما تحب من أسماء القبائل والعشائر، حتى لا يظن البعض أننا نقصد توصيفا بعينه). وأن تكون سعوديا أو كويتيا أو قطريا أو إماراتيا وتنتمي في الوقت ذاته إلى طائفة الشيعة أو السنة أو التنظيم الدولى للإخوان المسلمين. ولعل دولة الكويت تفردت بين دول الخليج من خلال تجربتها الديموقراطية في إدخال القبائل والطوائف إلى البرلمان. ولكن هل تصرف هؤلاء كمواطنين يكون ولاؤهم الأول للكويت كوطن؟ بكل أسف، وضعت المواطنة في الدرجة الثانية والثالثة بعد الولاء للقبيلة والطائفة والجماعة.

والسؤال الكبير هنا: هل يستطيع العرب أن يكونوا مواطنين سواء في الداخل (دولهم الأم) أو في الخارج (الدول التي يهاجرون إليها)؟

هذا السؤال لا يخص الخليجيين فقط، بل يخص التركيبة الذهنية والنفسية للعربي عموما. فالعرب ممن أراهم بالخارج ممن يحملون الجنسيات الأميركية أو البريطانية أو الألمانية أو غيرها، لا يعتبرون أنفسهم مواطنين لهذه الدول. هم فقط يتمتعون بجواز سفر يسهل لهم الإجراءات اليومية، ومتى ما حدثتهم عن الوطن الذي يحملون جنسيته وجواز سفره، قالوا لك: هذه لعبة فنحن عرب. وعندما تسألهم عن كونهم مصريين أو سعوديين أو سوريين قالوا لك نفس الإجابة، نحن عرب ومسلمون. فهل يستطيع العرب والمسلمون إذن أن يكونوا مواطنين؟ في الخارج هم عرب ومسلمون، وفي الداخل هم شيعة وسنة وإخوان ومن قبيلة كذا، وفخذ كذا، وعشيرة كذا. الدولة العربية تحتاج إلى حوار جاد حول سؤال المواطنة. أولى المؤسسات التي يجب مراجعتها في موضوع المواطنة هي المؤسسات التعليمية التي تكرس الإسلاموية والطائفية والعشائرية على حساب المواطنة. المؤسسة الأخرى التي يجب الانتباه إليها هي المؤسسات الإعلامية.

لتقريب أزمة الدولة في الخليج اليوم، سأستعير مثال المصعد الكهربائي، فهناك صاعدون إلى طوابق ما فوق الدولة: إلى الخلافة الإسلامية، وهناك من هم هابطون إلى طوابق ما تحت الدولة: القبيلة والعشيرة، أما الطابق الذي توجد فيه الدولة فلا يتوقف عنده المصعد.. نسميه في مصر بالدور المسحور، ويسميه الغرب بالميزانيين (mezzanine). فهل سينجح الخليجيون في إعادة ترتيب حركة المصعد ليصبح طابق الدولة هو الذي يقصده الجميع؟ وهل سينجحون في تحديد أين يجب أن يقع طابق الدولة مما يجعل المواطن يتوقف عنده، سواء أكان هابطا إلى القبيلة أو صاعدا إلى عالم تورا بورا؟ هذا هو تحدي الدولة الخليجية اليوم.