الأرض التي ما عادت «تتكلم عربي»!

TT

كان شهر أيار (مايو) الماضي شهراً مفصلياً في تاريخ لبنان المعاصر، وربما تاريخ المنطقة ككل، لأنه ما عاد ممكناً تخيّل أي حلول مجتزأة في ظل التضليل المفتعل بتصوير ما تتعرّض له المنطقة العربية.

فثمة خديعة كبرى تروّج على امتداد العالم العربي تختصر الصراع الإقليمي بقوتين اثنتين، هما: المحور الأميركي ـ الإسرائيلي والمحور الإيراني ـ السوري. وبالتالي، لا خيار لأي منا إلا أن ينضم لأحد هذين المحورين. وللأسف، ما زالت هذه الخديعة تلقى تصديقاً في دول مثل مصر والأردن... بالإضافة إلى الأراضي الفلسطينية.

الحقيقة أنه إذا كان الرئيس جورج بوش «الابن» قد اتّعظ بعد تجربة العراق المرّة، وما تعرّض له من خداع من أكثر من طرف، فما عاد يكرّر مقولته «من ليس معنا فهو ضدنا»، فإن هذا لا ينطبق على خصومه... أو بالأصح مَن يزعمون أنهم خصومه!

فهؤلاء يواصلون تضليلهم عبر أجهزتهم الإعلامية المملوكة مباشرة أو المدعومة سراً وعلانية، مشدّدين على أن كل من لا يرى ما يراه «الولي الفقيه» والرئيس محمود أحمدي نجاد وحلفاؤهما ما هو إلا عميل زنيم... ليس لأميركا فحسب، بل لإسرائيل (التي تفاوضها دمشق راهناً!) أيضاً.

لدى إيران الرسمية اليوم عدد محترم من المحطات التلفزيونية الفضائية الناطقة بعدة لغات منها العربية، بجانب تمويلها محطات أخرى داخل العالم العربي وخارجه «إسلامية» أو «تحرّرية» الشعارات، وعدداً كبيراً من الصحف والتنظيمات السياسية والنقابية التي تتبنى طروحاتها وتناضل ضد خصومها من «العملاء» والمتخاذلين.

هذه استراتيجية تستحق الإعجاب لأن ثمة وضوحاً في الرؤية عند طهران يدفعها للعمل على أساس أنها واقعياً في «حالة حرب» وعليها التصرف على هذا الأساس. وعليه، فإعلامها فعلياً إعلام حربي يغطي كل مجالات «البروباغاندا» التضليلية والتعبوية والتحريضية.

ثم هناك الجانب الميداني. فإيران المقاتلة من أجل مشروعها العقائدي والمصلحي الكبير لا تقاتل ميدانياً داخل حدودها فقط، بل وسّعت حدود «جبهتها» مع خصومها الإقليميين والعالميين لتشمل مختلف المسارح القتالية الإقليمية، المغذاة عقائدياً وتسليحياً وتدريبياً.

بعض العرب، لأسباب شتى، لا مانع لديهم البتة في أن تتولى إيران مهمتي تحرير فلسطين وتحريرهم من أنظمتهم نيابةً عنهم... تماماً كما فعل بعض أهلنا في العراق بتأييدهم الغزو الأميركي.

بل إن بعض العرب ما عادوا لفرط انهماكهم بمصالحهم المباشرة يكترثون لتفاصيل الصورة المتكاملة المتشكلة على مستوى المنطقة. ولكن الغريب أن الأحقاد والحزازات المحلية تدفع اليوم كثيرين من المثقفين العرب بالذات إلى السعي لتصفية حساباتهم مع زعاماتهم عن طريق استغلال «قوة التغيير» أو «قوة الاعتراض» الثورية (الإيرانية في هذه الحالة) أملاً منهم بقلبها أوضاع المنطقة وتحريرها من رجس الاحتلال الإسرائيلي والإمبريالي.

المفارقة مع هؤلاء أنهم يعتبرون رهانهم هذا قمة في التفكير العملي، متناسين حقائق كثيرة متصلة بطبيعة سياسة طهران الإقليمية منذ «الثورة الخمينية»، على رأسها أن وراء هذه «الثورة» مشروعين ضيقين جداً على قياس مصالح أهل السلطة في طهران اليوم أحدهما «قومي» إيراني وثانيهما «فقهي» مهدوي... لا يتسعان للعروبة المنفتحة التقدمية أو الإسلام الرّحب والمتسامح.

أضف إلى ذلك أن ثمة تياراً شعبياً كبيراً في إيران نفسها يناوئ فكر قيادتها وممارستها. وحتى في حال نجاح مشروع الهيمنة «التحريرية»، باستسلام واشنطن وتل أبيب، فالأمر الوحيد المؤكد حدوثه في ظل منطقي «الشرعية الحصرية» و«تكفير الآخرين» هو تفجّر الحروب الأهلية والفتن المذهبية على امتداد المنطقة.

لبنان، الحلقة الأقليمية الأضعف، تنفس الصعداء لمدة 24 ساعة بعد انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية بعد فراغ رئاسي طال لنحو نصف سنة.

فقط 24 ساعة، عاد بعدها اللبنانيون إلى واقعهم المؤلم مع ثاني خطاب للسيد حسن نصر الله أمين عام «حزب الله» خلال شهر واحد... هو الشهر الأسوأ بالنسبة لمضامين خطب السيد.

فبعد خطاب التمهيد للفتنة الذي ألقاه السيد في نهاية الأسبوع الأول من أيار، جاء خطابه في 26 منه، ليكشف فيه على الملأ ما بدأ معظم اللبنانيين يعرفونه ـ بمن فيهم طبعاً جمهوره ـ عن الأهداف الحقيقية لـ«الحزب» ونيته إزاء الوطن ومَن يفترض أنهم شركاء فيه.

السيد نصر الله قال عبارة بليغة جداً في خطاب 26 أيار هي أن حزبه وسلاحه «لا يحتاجان إلى إجماع وطني» حولهما. ووضع نفسه و«شرعيته» صراحةً في كفة مقابلة لـ«شرعية» وجود الدولة، في رد سريع على ما جاء في خطاب قسم رئيس الجمهورية. اليوم «حزب الله» يدعو إلى التفاوض على «الاستراتيجية الدفاعية» داخل «حكومة وحدة وطنية»... له فيها الثلث المعطل وفي عاصمة يحتلها عملياً بقوة السلاح.

وهو ـ ولنتذكر إنه حزب ديني مذهبي ـ يطالب بأن يكون له الحق بتسمية وزراء ينتمون إلى مذاهب أخرى... وبذا يكمل في مجال السياسة، أيضاً مستقوياً بقوة السلاح، المهمة «الاختراقية» التي نفذها قبل بضعة أسابيع بالدم.

وهو يريد أن تسنّ الحكومة الجديدة القانون الانتخابي الجديد وتجري الانتخابات المقبلة بين فئة من المواطنين العزل... وفئة ـ بذريعة «المقاومة» ـ تحتفظ بكامل سلاحها.

الخلاصة؟

إن أي بحث سياسي جاد اليوم يبقي السلاح في أيدي فئة استخدمته، وتستخدمه داخلياً، علاج تخديري مؤقت يخدم مشروع الهيمنة المحلية، الذي هو جزء لا يتجزأ من مشروع الهيمنة الإقليمية.