تشكيل التيار الثالث تحدٍّ كبير للرئيس سليمان

TT

هناك مؤشرات على انفراج ما في المنطقة العربية: تسوية الدوحة اللبنانية. الحديث السوري المتفائل عن استعداد اسرائيل للانسحاب من الجولان.

لكن هذا الانفراج ما زال غامضا ومبهما. هل هو انفراج نحو مصالحة عربية، سورية. سعودية. مصرية؟ أم هو انفراج أوسع، اقليمي ودولي، يصل الى حدود وفاق عربي ـ إيراني، وقيام إدارة بوش بإعادة ترتيب علاقتها بإيران والعراق، وفرض تسوية تمهد لقيام دولة فلسطينية، أم انها دخلت مرحلة الاحتضار، بانتظار الادارة الجديدة؟

كل ذلك يدخل في منطق التساؤلات والتكهنات. وحدها التسوية اللبنانية هي المؤشر العملي للانفراج. يبقى تنفيذها المحك الحقيقي على وجود انفراج اقليمي أو دولي. من هنا، تأتي أهمية التركيز على لبنان في الوقت الراهن، لمعرفة ما إذا كان قادرا فعلا، عبر تسوية الدوحة، على اجتياز الطوز (باللغة الخليجية) الذي شل هذا البلد العربي الصغير منذ اغتيال الحريري والانسحاب السوري في عام 2005.

الانتخاب السريع لمرشح الاجماع منح العرب واللبنانيين بارقة أمل كبيرة، التحدي الكبير للرئيس ميشال سليمان هو في قدرته على لعب دور الحكم والوسيط المقبول لدى الطوائف المتناحرة. لعله كان يرغب في تشكيل حكومة انتقالية تجري الانتخابات التشريعية المقررة في العام المقبل، على أساس قانون انتخاب جديد.

لكن الاستشارات النيابية الملتزم بها الرئيس بموجب ميثاق الطائف، فرضت تكليف مرشح الأكثرية تشكيل حكومة سياسية / طائفية. عودة السنيورة رئيس الحكومة السابقة تعني أن الأكثرية السنية المسيحية الدرزية ما زالت متماسكة وقادرة على فرض مرشحها على الأقلية التي اعتبرت نفسها منتصرة، بعد اجتياحها بيروت السنية، وبعد حصولها على حق الفيتو لإبطال قرارات الحكومة، أيا كان رئيسها.

أعتقد ان السنيورة قادر على استعادة ثقة المعارضة، والتعايش معها داخل الحكومة وخارجها. فهو رجل حوار ومنطق هادئ، تكنوقراط اقتصادي/مالي كفء، بلا طموحات سياسية أو حتى خصومات شخصية، غير أنه هو أيضا مقيد. الأكثرية والمعارضة ستفرضان عليه وعلى رئيس الجمهورية توزير مرشحيها. مشكلة السنيورة انه ما زال غير مقبول في سورية، نتيجة لتمريره إجراءات محكمة الحريري الدولية، هذه الإجراءات تعتبرها سورية وإيران والمعارضة الشيعية (أمل وحزب الله) غير قانونية، بحجة انها غير ممهورة بختم وتوقيع رئيس الدولة، وبذريعة أنها صدرت عن حكومة (غير شرعية) استقال عدد من وزرائها.

لعل العلاقة المريحة التي تربط الرئيس سليمان بسورية قادرة على مصالحة السنيورة مع دمشق، سليمان تحدث عن علاقات نَدِيِّة مع سورية قائمة على احترام السيادة المتبادل وحل المشاكل المعلقة. أقول ان هذه العلاقة تدهورت منذ اغتيال الحريري، بحيث تحولت لأول مرة في تاريخ الخصومة من نزاع بين نظامين إلى محاولة لتدمير العلاقة الاجتماعية الوثيقة بين شعبين شقيقين، بفعل حملات التحريض الإعلامية المتبادلة.

الرئيس سليمان معه الحق. من الصعب قيام نظام في لبنان معاد لسورية، لا سيما مع وجود نظام في دمشق شديد الحساسية والخصومة في علاقاته العربية. لست ضد إقامة علاقات ديبلوماسية بين سورية ولبنان، لكن تقاليد العلاقات الدولية الآن تتجاوز السفراء والسفارة. ثورة الاتصال الالكتروني جعلت العلاقة المباشرة على مستوى رؤساء الدول والوزراء أسرع وأسهل في تذليل الأزمات والمشاكل الطارئة، ولا سيما لبنان المحاط بسورية من كل الجهات.

تشكيل فريق سياسي ثالث يمارس الفصل بين طوائف الأكثرية والأقلية، هو تحد كبير آخر للرئيس سليمان. يبدو واضحا، من خلال تصرفه الأمين بالجيش، رغبته في البقاء على الحياد، والتميز عن الأكثرية والأقلية. لكن منصبه الرئاسي لا يكفي لتأكيد استقلاليته ودوره كوسيط، ما لم يدعمه بفريق عمل سياسي له شعبيته في الشارع اللبناني. أقصد ان الرئيس سليمان يستطيع ان يخلد تاريخياً هذا الدور، إذا استطاع اختراق الطوائف بتيار سياسي وشعبي من كل الطوائف، بحيث يعتبر نفسه رئيساً للبنان، كل لبنان، وليس رئيساً للمسيحيين أو الموارنة فحسب.

في المقابل، أتمنى أن أرى تيار «المستقبل» يوسع دائرة التمثيل السنية، باستيعاب قوى سنية أخرى، وترك مقاعد نيابية لزعماء سنة مستقلين وبارزين، على مستوى سليم الحص وتمام سلام. سار الراحل الحريري خطوة مهمة نحو الانفتاح الثقافي التعددي بإنشائه مؤسسته التعليمية لكل أبناء الطوائف. مع الأسف، تعرضت هذه المؤسسة لتدمير بشع في هجمة «حزب الله» الإيراني على السنة.

الانفتاح الماروني والسني لا يقابله انفتاح مماثل لدى الطائفة الشيعية. فاجأ حسن حزب الله لبنان بطرحه ولاءه لـ«معصومية الفقيه». هو حر في خضوعه للفقيه (العادل. العالم. الحكيم. الشجاع. الصادق. المخلص). حر في تسديد فواتير الولاء «للمعصوم» خامنه ئي في إيران. لكن ليس حرا في فرض هذه الوصاية المرجعية المنغلقة على لبنان، ولا حتى على شيعة لبنان.

ديمقراطيا، الانتخاب مقدم على التعيين بالاختيار والفرض. فقهياً، نظرية «المعصومية» أثارت جدلا في إيران، واعتراضاً على الخميني وخامنه ئي. أريد أن اسأل «آية الله» محمد حسين فضل الله عن رأيه في الطرح الضيق لحسن حزب الله. لماذا يسكت؟ خوفا ومجاملة؟ وهو الفقيه ذو الفتوى الرافضة للمعصومية المنغلقة. التي يتم الترويج لها في لبنان بالذات؟ لماذا يسكت فقهاء الشيعة في لبنان، كعبد الأمير قبلان، وهم يعتبرون الفقه الشيعي أكثر مبادرة وانفتاحا وتحررا من الفقه السني الذي لا يؤمن بوصاية فقيه أو إمام؟

ثمة من يقول ان الانفراج في لبنان قام على أساس انفراج مماثل وتسوية في الجولان: تنسحب اسرائيل من الجولان، في مقابل انسحاب سورية السياسي من لبنان. لست هنا في مجال التوسع في الحديث عن مفاوضات الجولان. انما أكتفي بالإشارة إلى إيماءات وتلميحات باحتمال قبول سورية بأفكار اسرائيلية عن تبادل أراض مع اسرائيل، أو تأجير وإعارة أراض في الجولان للدولة المحتلة.

كان ذلك ممكنا في صلح الأردن واسرائيل. تم تأجير أرض أردنية صحراوية لا تملكها سوى الدولة. الجولان أرض يملكها مواطنون سوريون. كيف لهم أن يروا أرضهم مؤجرة ومُعارة غصبا عنهم؟ الأوطان لا تؤجر ولا تعار ولا تستعار.

ظاهرة توحي بالتفاؤل. تصريحات زعماء الموارنة الروحيين والسياسيين تؤكد اعتمادهم الدور العربي. العروبة قوة وهوية للبنان. التاريخ يعيد نفسه. كان مسيحيو لبنان أول من أيقظ اللغة والهوية القومية العربية، قبل اغترابهم وغربتهم القسرية عنها. الأمل في ان يستعيد مثقفو الشيعة إيمانهم بالعروبة، من دون وصاية أو «تخوين» من الفقيه «المعصوم» حسن حزب الله.

يبقى لديَّ رجاء لدى الزعماء والساسة في لبنان. لعل الهدوء المأمول يوفر لهم الوقت الكافي لإتقان النطق بالفصحى المبسَّطة، لغة الصحافة. كان شارل مالك فيلسوف العزلة يوصي بالعناية باللغة الجميلة، اللغة العربية. كان فؤاد أفرام البستاني منظّر جبهة الحرب الأهلية المسيحية عالما علامة بالأدب واللغة والتاريخ. يتملكني الحزن عندما أسمع زعماء وساسة من كل الطوائف يتحدثون ويقرأون العربية كخواجات اليونان المقيمين أو الصوماليين المهاجرين.