قرن الأديان

TT

توني بلير قرر أن يخصص بقية حياته للدين وحوار الأديان، والسعي للاستفادة من طاقة الدين في بث السلام وتوجيه الحماس للتنمية الاقتصادية ومحاربة الفقر.

هكذا قال رئيس الوزراء البريطاني السابق وهو يدشن مؤسسته الخيرية في نيويورك مؤخرا.

لا ندري عن مصداقية بلير، ومدى التوفيق الذي سيحالفه في مهمته الملحمية هذه، مع أنه قد يملك الحماسة الكافية بعد مشاعر العودة للدين التي انتابته بعد ترك «10 دواننغ ستريت»، ولكن ما يبدو صحيحا ومقنعا في كلامه هو توقعه الخطير بأن القرن الحالي سيكون قرن الأديان، بعدما كان القرن المنصرم هو قرن السياسات، وهو ما يوافقه عليه البعض.

لو رجعنا بالنظر في مسوغات هذا الاحتراب العالمي الحالي، على الأقل في المستوى الظاهر، لوجدنا للدين نصيبا وافرا منه، أعني استخدام الحجة الدينية أو الثقافية في تسويغ هذه الحرب.

القاعدة أشعلت الدنيا، وقطعت الزمن، بعمليتها الكبرى في 11 سبتمبر، وأمريكا / بوش ردت عليها بـ«حرب أفكار» ضد الأصولية الإسلامية، هذه الحرب التي رأى فيها خصوم أمريكا / بوش حربا صريحة على الإسلام من حيث هو دين وجماعة إنسانية ضخمة. وما جرى في تضاعيف ذلك من مجريات هذه الحرب، لم يكن إلا تفرعات وتشعبات من نبع هذه الحرب «الفكرية» أو الدينية إذا ما أردنا تعبيرا أكثر عريا ومخاطبة للحس الأولي.

لا مناص من رؤية حرب الأديان هذه، فهي شاخصة في أغلب بؤر التوتر، وكثيرا ما يتم الإحالة إلى سبب ديني في هذا الصراع. فنحن، من خلال مرافعات بعض مثقفينا ووعاظنا المتحمسين، لا نرى في كل ما يجري من توتر بيننا وبين الغرب إلا غزوة صليبية جديدة، تريد نبش قبر صلاح الدين وعودة فرسان المعبد من جديد. وهم، من خلال بعض يمينييهم ومثقفيهم المهتاجين، لا يرون فينا إلا جموعا من المتطرفين الدينيين يشكلون خطرا على قيم وثقافة الغرب العالمية. .. وهكذا، وفي صخب هذا الضجيج الديني، لم يعد بالإمكان سماع أصوات الاعتدال، أو موسيقى التعايش والسلام.

من أجل ذلك كان لدعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز لحوار الأديان موقعها ودورها الكبير في هذا العالم المتوتر. الملك الذي أطلق دعوة مفاجئة للجميع حول حوار الأديان في مارس الماضي، عاد ورسخ هذه الدعوة وجسدها من خلال إجراء عملي على الأرض، فها هي رابطة العالم الإسلامي، وبتكليف من الملك، تنهي تحضيراتها لـ«المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار»، تمهيداً لآخر أشمل بين «أتباع الديانات والحضارات» من كل أرجاء العالم، وتنطلق حلقات النقاش غدا الأربعاء برعاية الملك عبد الله شخصيا في مكة.

لماذا هذه الدعوة وهذا المؤتمر مهمان؟ لعدة أسباب، أشرت لبعضها في مقال سابق، وما زالت هذه الأسباب قائمة، وأبرزها هي تبني السعودية، البلد الحاضن للكعبة التي يتجه إليها مسلمو العالم كل يوم في الصلاة، ثم هي «عمق» الإسلام السني السلفي، ثم هي مهد العرب، ثم هي البلد الأساسي في سوق الطاقة العالمي.

في الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي ساركوزي أمام مجلس الشورى السعودي بالرياض في يناير الماضي، تحدث طويلا عن أهمية الحوار بين الأديان، وأشاد بدور الحضارة الإسلامية في عز ازدهارها، خصوصا في الانفتاح على العقل والفلسفة، قبل أن يذبل النور العقلاني، وتوقف عند دلالات لقاء الملك عبد الله، خادم الحرمين الشريفين، بالبابا بنديكت السادس عشر، راعي الكنيسة الكاثوليكية في العالم، وأنه لقاء خير من مئات المؤتمرات في حجم التأثير الذي يفترض أن تحدثه صورة هذا اللقاء المائي على نار الاحتراب بين المسلمين والمسيحيين.

هل يعني هذا أن المسألة سهلة، أو قريبة الحل؟ أبدا، فأزمة التواصل والثقة بين الكتلة المسلمة والكتلة المسيحية في العالم ضارية، وهناك «جروح غائرة» بين الطرفين كما قال محمد خاتمي، الذي كان أول من التقى بابا الفاتيكان بعد أزمة محاضرته الشهيرة (سبتمبر 2006) التي اقتبس فيها البابا عبارة لإمبراطور بيزنطي في القرن الرابع عشر الميلادي، عبارة اعتبرها المسلمون مستفزة لهم. خاتمي قال حينها إنه يجب على المسلمين والمسيحيين الكف عن استخدام اسم الله في التحريض على الحروب والكراهية.

وبالعودة لموضوع الحوار نسأل: ما معنى هذا الحوار ومراده وغايته؟ لأنه إذا اتجه الحوار إلى «مناظرة» ومساجلة دينية، فلن نصل إلى غاية السلام والتواصل، لا بل إننا سنصب مزيدا من الزيت على نار التعصب.

ومن الغرائب في هذا السياق، أنني وجدت في منتدى مسيحي ـ عربي على الانترنت سمى نفسه «منتدى الحوار الإسلامي»، موضوعا من ضمن موضوعات مشابهة، عنوانه: 12 سببا تجعلني أرفض نبي الإسلام. وفي المقابل وجدت في منتدى إسلامي، عربي بطبيعة الحال، اسمه «ملتقى حوار الأديان» موضوعا هذا عنوانه: الضربة القاضية للنصرانية. وغني عن القول أن دخولا كهذا الدخول على من يدعي انه يحاور، هو دخول مدمر لفكرة الحوار نفسها. مفهوم الحوار يكتنفه كثير من الالتباس، ويحيط به جملة من الاستفهامات، لكن المنتدى «التحضيري» في مكة يقول انه سيأخذ بالاعتبار أخطاء المنتديات السابقة، وانه سيركز على «تأصيل» مفهوم الحوار بين الأديان داخل الإسلام نفسه، قبل أن نتوجه إلى غير المسلمين. إذ كيف نحاورهم ونحن أساسا لم نتفق على ماذا نريد منهم؟ ومن سنحاور؟ وكيف سنحاور؟ وهل نحن مستعدون أصلا لفكرة الحوار، في اللحظة التي نرفض فيها أن نتسامح داخليا بيننا؟ هذه منطلقات ومحددات مهمة يجب الوضوح فيها إذا كان المراد حوارا منتجا، لا مجرد مؤتمرات علاقات عامة بين بعض رجال الدين.

في ظني أن من أسباب الإخفاق في مد الجسور بينا وبين الآخرين هو الخطأ في نقطة البداية، فليس المطلوب من المسلمين أن يبشروا في الآخرين دينيا ويشرحوا «محاسن» الإسلام، لأنه من المفترض بمن سيحاور المسلمين من غير المسلمين أنه يعرف الإسلام جيدا، وقد تخصص فيه ربما أكثر من بعض المسلمين، الفكرة هي في تعاون الأديان في تعميم التسامح في العالم، وربما أعجب البعض منا بمناظرات الراحل أحمد ديدات وغيره، ولكن الحقيقة أن هذا لا يغير من الحقائق الاجتماعية شيئا، فسيبقي المسيحيون وسيبقى المسلمون. الأمر الآخر الذي تتأكد الإشارة إليه هو انه حتى نصبح فعالين ومقتنعين بمشروع الحوار بين الأديان، يجب أن نحافظ على الأقليات الدينية بيننا، خصوصا المسيحيين، فوجود لون مسيحي، وغيره، بارزا في هذه البلدان يخفف من غلواء التعصب الديني لدى البعض ويعود العين والنفس على وجود «آخر» مختلف، يشاطرنا نفس الوطن ونفس العيش، ونفس الرابطة المواطنية، فهذه الحقيقة الاجتماعية الماثلة خير من ألف درس نظري عن التسامح الديني، ولذلك فإن واجب المسلمين والعرب هو حماية الأقليات غير المسلمة بينهم وطمأنتها، وقد نبه كثير من المراقبين إلى حركة الهجرة المسيحية من المشرق العربي إلى الخارج في ما يشبه تفريغ المنطقة من مسيحييها. وهذا شيء ضار بفكرة التنوع والتسامح، وهذا ما تخوف منه مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك في بيانهم الذي أصدروه في اكتوبر 2006، مؤكدين أن مسيحيي المشرق والعرب هم «حلقة وصل بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية، تفتح بينهما إمكان إجراء حوار بنّاء». وما جرى في العراق، الحديقة الغناء بالتنوع الديني لدرجة مذهلة، أمر يبعث على الأسى، بعد التجريف والتجفيف الذي قلص أعداد المسيحيين، والصابئة، بل حتى اليهود الذين لم يبق منهم إلا حوالي سبعة أشخاص كما في تقرير نشرته «نيويورك تايمز».

الحوار بوابة الفهم والتفهم ومعرفة حقيقة ما لدى الآخر. هذه البوابة إذا تم الدخول منها، فسنلج إلى باحة فسيحة من الغنى الإنساني والتواصل المرتاح بين الحضارات والثقافات، وحينما يتم التعرف مباشرة بين الحضارات والأديان، فلن يجد المتطرفون هنا وهناك فجوات يمررون منها سم الكراهية الدينية، التي فتكت ببني الإنسان قديما، وتفتك بهم حديثا.

الإنسان هو الإنسان، في أشواقه وأحلامه وحبه للسلام. والمسلم، هو إنسان يبحث عن هذا السلام وهذا التواصل، لكنه لقي العنت من أخيه المسلم الذي يستخدم دينه ضده، ولقي العنت ممن ظلمه من أبناء الغرب والشرق من غير المسلمين حينما صوروه وحشا لا يحب الحياة، وآن لهذا «الإنسان» المسلم، وللمعتدلين من أبناء الأديان الأخرى، أن يقولوا كلمتهم.

[email protected]