أوروبا تفاوض حماس.. مبادرة صادقة أم سدّ فراغ

TT

يقول مثل فرنسي معروف «وحدهم الأغبياء لا يغيرون رأيهم..»، وها هم الفرنسيون الذين هم ابعد ما يكون عن الغباء يجّسدون صحة هذه الفكرة، بعد أن كُشِفَ النقابُ عن اتصالات سرية بين جهات فرنسية وممثلين من حركة حماس. رغم أن الأطراف الرسمية قلّلت من أهمية هذه الاتصالات، وقالت إنها لا تتعدى أن تكون مبادرات شخصية، حتى أن الصحافة قدمت السفير السابق لدى العراق ورئيس دائرة أفريقيا والشرق الأوسط في «الكي دورسيه»، إيف أوبان دولا مسوزيار، على أنه زار غزة بصفته باحثا.. فقط (..). ورغم أن فرنسا لا زالت تّصرح رسمياً أنها ملتزمة بشروط اللجنة الرباعية التي تحظر التفاوض مع حماس ما دامت لا تعترف بإسرائيل، رغم كل هذا وذاك، فكل البوادر تشير إلا أن أوروبا عموماً أصبحت أكثر واقعية في تعاطيها مع المسألة الفلسطينية، وهي كمن أدرك أخيراً أن تجاهل ممثلي نصف الشارع الفلسطيني واتباع إستراتيجية «تشديد الخناق» لن يساهما في انفراج الأوضاع. حتى أن مستشارا مقربا من الرئيس ساركوزي اعترف أخيراً: «أخطأنا حين وضعنا عدة شروط على حماس، وكان من الممكن الاكتفاء بشرط واحد..». خطوة فرنسا التي أغضبت واشنطن وبدت وكأنها فاجأت الشركاء الأوروبيين ليست في الواقع سوى ذالك «السّر الشائع» الذي يعرفه الكلّ لكن الكلّ يتكتم عليه، بل يبدو أن ما فاجأ في هذه المسألة هو الإعلان عن القيام بهذه الاتصالات أكثر من الفعل بذاته.

فبعد تلميحات عدة مسؤولين بضرورة إعادة النظر في موقف أوروبا من حماس كالفرنسي كوشنير، البريطاني بويل، الإيطالي ماسيمو وبعد زيارة كارتر والسفير البريطاني السابق للأمم المتحدة وبعد إعلان واشنطن وبروكسل مساندتهما لجهود الوساطة المصرية لوقف قتال الأشقاء الفلسطينيين، ها هي الأمور تتضح أكثر، فهل يريد الأوروبيون فتح صفحة جديدة مع حماس..؟؟ أم أنها لا تتعدى أن تكون فسحة قصيرة لهم في انتظار مرور الانتخابات الأمريكية ثم تعود الأمور لسابق عهدها؟؟

مسؤولية الأوروبيين في تعّطل مسيرة السلام لا شك كبيرة وهم يعلمون ذلك، كما يعلمون أيضا أنهم الطرف الوحيد الذي بوسعه تحقيق التوازن، حيث أنهم يحظون بثقة حماس ومحمود عباس وإسرائيل في نفس الوقت، لكنهم ظّلوا متجاهلين لكل هذه المعطيات رغم أن اتفاق مّكة 8 فبراير(شباط) حمل الكثير من الآمال والفرص، وبرهن على أن الفصائل الفلسطينية بقليل من النّية الطيبة وتحكيم مصلحة الوطن قادرة على التحاور فيما بينها وتوحيد صوتها. أوروبا لم تستغل تلك الفرصة، ورهنت مستقبل المنطقة على شرط «الاعتراف بإسرائيل» بل تجاهلت التطورات التي حدثت في موقف حماس منذ 1995 حين عرض الشيخ ياسين ـ رحمة الله ـ عليه على إسرائيل هدنة طويلة المدى مقابل دولة فلسطينية في الضفة وقطاع غزة، ثم حين أكد معظم زعماء الحركة بعده مراراً وتكراراً على موافقتهم على إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود يونيو (حزيران) 1967، مما يؤكد أن حماس وصلت فعلاً لمرحلة الاعتراف «الضمني» بدولة إسرائيل. وبما أن كلنا يعلم أن السياسة لا تفهم سوى لغة المصالح، فماذا يحرك المبادرات الفرنسية الآن تحديداً؟ هل هي رغبة الأوروبيين في استغلال فرصة انشغال الامريكيين بالانتخابات لتفعيل دورهم الدبلوماسي على الساحة الدولية، أم هو تأثير ضغط الرأي العام والمنظمات الإنسانية التي لا تتوقف عن التنديد بالوضع الإنساني الكارثي في الأراضي المحتلة..؟

صحيح أن الدور الأوروبي لن يكون أبداً بثقل الدور الأمريكي، لكن المسألة الفلسطينية كانت دائما ضمن اهتمامات المجموعة الأوروبية، وكثيرٌ من أنصار معسكر السلام أسف لتراجعها عن الموضوع، خاصة بعد رحيل الرئيس عرفات وفوز حماس في الانتخابات، فهل يكون موقفها الآن أكثر صرامة وجرأة من ذي قبل؟ أم هي مسألة سدّ فراغ فقط أو بعبارة أخرى ومع احترامي لها هل تكون أوروبا هي ذلك الفأر الذي لا يلعب إلا عندما يغيب القط الأمريكي..؟ التوقيت على الأقل مناسب للفرنسيين الذي أطلقوا مبادرة الاتصال مع حماس وهم يتأهبون لتسلم رئاسة المجموعة الأوروبية ابتداءً من يوليو (تموز) المقبل، وفي الوقت الذي تبّين فيه تراجع نفوذهم ودورهم الدبلوماسي في المنطقة بعد فشل كوشنير الذريع في توحيد كلمة الأشّقاء اللبنانيين رغم محاولاته المتّكررة.. أوروبا أكيد لا تريد لحماس أن تتحّول لحزب الله جديد في المنطقة، والاتصال بهذه الحركة والتفاوض معها قد يكون أيضاً أحسن وسيلة، كما قال دبلوماسي فرنسي «لنعرف ما يخططون له وإلى أيّ حدّ يمكن أن يتنازلوا..».

مهما يكن، فالمبادرة ليست رسمية بعد، والأوروبيون ما زالوا إلى غاية يومنا هذا يصرحون بأنهم ملتزمون بتوصيات اللجنة الرباعية. وما نتمناه هو أن تجرؤ أوروبا على استغلال هذه الفرصة الذهبية وتثبت للفلسطينيين والعرب أن بإمكانها أداء دور مهم في عملية السلام من دون أن تنحاز لطرف على حساب آخر..

[email protected]