كيف حصلت المعجزة؟

TT

مبارك اتفاق اللبنـــانيين، ومبارك الرئيس الجديد. كلنا كنا نضع أيدينا على قلوبنا خوفاً من الفشل الذريع الذي سيؤدي حتماً إلى مواصلة الاقتتال والنزول إلى قغر الهاوية المرعبة. وكنا نقول: ألا يكفي ما دفعه لبنان من ثمن إبان الحرب الأهلية الماضية (1975 ـ 1999) حتى يغرق في المستنقع من جديد؟ وهل كان سيقوم منه هذه المرة لو غرق فيه؟ ولماذا تتآلب كل كوابيس العالم على هذا البلد الجميل لتحطيمه؟ وماذا نفعل إذا ما مات مركز الثقافة والنشر والنهضة العربية؟ ألن يصاب التنوير العربي في مقتل إذا ما انطفأ لبنان؟ اسئلة عديدة متلاحقة كانت تراودني في الآونة الأخيرة. ولكن لحسن الحظ فإننا تحاشينا الكارثة في آخر لحظة بفضل مؤتمر الدوحة في قطر. والآن فهمت جيداً كلمات ريجيس دوبريه أثناء تكريمه مؤخراً في السفارة القطرية في باريس. قال بما معناه: هذا البلد الصغير في حجمه الكبير في امكانياته يلعب دوراً هاماً في لقاء المتضادات، في مصالحة الأعداء المتخاصمين، هذا البلد يعطي لكل طرف حق الكلام ولا يقمع أحداً بشكل مسبق.. هذا البلد أصبح بؤرة الديمقراطية والنقاش الحر في العالم العربي...

هناك نية طيبة إذن أدت إلى هذا الاتفاق المبارك. ولكن هناك حنكة سياسية أيضاً وبعد نظر في السياسة الدولية. هناك انفتاح قطري وخليجي وسعودي وعربي على العالم، هناك خروج من الرؤية المتشنجة الأحادية الجانب. هناك رفض للرؤية المانوية الثنوية التي تقول بان الحق كله في جهة، والشر كله في جهة أخرى. لا. كل طرف من الطرفين المتصارعين كان له نصيبه من الحق ويستحق حصته من العدالة.

والعدل أساس الحكم كما تقول العرب.. والظلم المجحف الذي كان يصيب شرائح كبيرة من السكان ويشعرهم بالغبن والاحتقان، هو الذي كان سيشعل شرارة الحرب الأهلية في لبنان.

فلنفكر إلى أبعد من أنوفنا أيها السادة. لتكن لدينا نظرة استراتيجية بعيدة المدى، ولنعط لكل ذي حق حقه، وبعدئذ لا خوف على لبنان ولا على غير لبنان.. المسألة لم تكن فقط مذهبية وإنما كانت أيضاً سياسية بل وتخص العدالة الاجتماعية بالدرجة الأولى. فأنت لا تستطيع ان تحكم البلد بنصفه فقط محتقراً نصفه الآخر وكأنه غير موجود.

يقولون: لا غالب ولا مغلوب. صحيح. ولكني أحب ان استدرك وأضيف قائلا: لا، اسمحوا لي ايها السادة، هناك غالب ومغلوب في هذا الاتفاق. الغالب هو لبنان كله، والمغلوب هو الشر كله، أي الفتنة الطائفية والمذهبية. وهذا ليس انتصارا للبنان فقط، وانما لكل العرب. فقد أثبت العرب انهم قادرون على حل مشاكلهم بالحوار الديمقراطي، بالأخذ والرد، بالهجوم (الكلامي) والهجوم المضاد، حتى ينبلج الفجر ويخرج الحل.. ولحسن الحظ فان هذا المولود السعيد حصل في عاصمة عربية لا اجنبية..فهل اصبح العرب حضاريين يا ترى؟ هل اصبحوا قادرين على حل مشاكلهم العويصة بالحوار الكلامي، بالعقلانية التواصلية كما يقول هابرماس، وليس بالحرب والضرب؟ شيء جديد هذا اذا ما صح، شيء يبشر بالخير ويفتح أفق المستقبل..

من المعلوم ان الفيلسوف الالماني هابرماس بنى كل نظرياته الفلسفية على العقلانية التواصلية أو الحوارية الديمقراطية.

ولكن كنا نعتقد انها تنطبق فقط على الشعوب الاوروبية المتحضرة، فاذا بها تنطبق علينا نحن ايضا! فهل اصبحنا حضاريين يا ترى دون ان ندري؟ هل تحررنا فجأة من عقلية التصريحات الفهلوية والعنتريات الفارغة؟ هل انتقلنا من عقلية المصلحة الانانية الفئوية الضيقة، الى عقلية المصلحة الوطنية العليا الواسعة التي تشمل الجميع؟

هل فهمنا ان السفينة ستغرق بكل ركابها وليس ببعضهم فقط اذا ما وقعت الفأس بالراس وحصل المكروه الاعظم لا سمح الله؟..

اذا كنا قد توصلنا الى ذلك فهذا يعني ان العقلانية السياسية العربية اصبحت حقيقة واقعة. وهذا حدث كبير في تاريخنا وسوف تكون له انعكاسات لاحقة لا يعلم الا الله مداها. كل ما نأمل هو ان ينتصر هذا الاتجاه ويترسخ اكثر فأكثر. وذلك لان سياسة الشعارات العاطفية والصراخات المائعة والطروحات الديماغوجية لم تؤد بنا منذ ستين سنة وحتى اليوم الا الى المزيد من الانهيار والتقهقر والخراب.

فهنيئا اذن للبنان هذا الاتفاق التصالحي المتوازن الذي يثبت مقولة: ليس بالامكان افضل مما كان. هنيئا له ايضا طبقته السياسية بكل مكوناتها سلطة ومعارضة، اذ عرفت كيف تتجاوز حساباتها الصغيرة الضيقة وترتفع الى مستوى المسؤولية الوطنية العليا وتتعالى على جراحاتها التي لا تزال طرية نازفة.

ولعل ذلك يصبح سابقة بالنسبة لعرب آخرين، عساهم يجدون في هذا الاتفاق اللبناني قدوة لهم من اجل حل مشاكلهم الداخلية بلغة الحوار والمنطق لا لغة الرشاشات والبنادق والحروب الأهلية والمذابح.. وعاش لبنان!