ما بعد جورج بوش؟!

TT

لم يحدث أن انقسم الشعب الأمريكي على نفسه منذ حرب فيتنام كما انقسم على الحرب في العراق. ولم تكن المسألة راجعة فقط إلى الفشل في تحقيق أهداف بعينها، بقدر ما بدا أن واشنطن قد أصبحت عاجزة عن التوصل إلى استراتيجية تتعامل مع متطلبات عالم كان فيه القديم من أيام الحرب الباردة لا يزال حاضرا، وكانت فيه العولمة الاقتصادية والاتصالية موجودة بكثافة، وكان فيه كل ما كشفته، وترتبت عليه، أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 من نتائج. وعندما يتجمع كل ذلك في تركيبات سياسية واستراتيجية، فإن العالم يصير معقدا إلى الدرجة التي تبدو فيها كل الحلول ناقصة، وكل الاستراتيجيات عاجزة. وعندما يحدث ذلك في ظل الثقافة الأمريكية البرجماتية فإن عملية بحث كثيفة عن مخرج تعيد الانطلاقة الأمريكية في العالم تصبح من واجبات الساعة على المفكرين والخبراء وممثلي الشعب. وربما لم تكن هناك صدفة كبيرة في أنه في الوقت الذي بدت فيه الولايات المتحدة قليلة الحيلة في الشرق الأوسط فإنها أرسلت سفينة الفضاء «فينكس» إلى المريخ حيث المجهول أكثر من المعلوم.

وخلال الأسبوع الماضى حدث أن شاركت في واحدة من هذه المحاولات التي يحاول فيها جمع من الأمريكيين قدح زناد الفكر بحثا عن الطريق الذي سوف تسير عليه الولايات المتحدة بعد نهاية الفترة الرئاسية لجورج بوش. وكان ذلك عندما شاركت في ورشة عمل أعدها معهد «أسبن» الأمريكي المعروف لسبعة عشر عضوا من أعضاء الكونجرس الأمريكي، كان منهم خمسة ينتمون إلى مجلس الشيوخ، واثنا عشر في مجلس النواب، وجميعهم ممن يتمتعون بعضوية طويلة المدى، بالإضافة إلى تجارب في حكم الولايات (جورج فينوفيتش)، وواحد منهم يعمل رئيسا للجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب (هوارد بيرمان)، وآخر كان رئيسا للجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ (ديك لوجار)، وواحد على الأقل يعد في مقدمة المرشحين لمنصب نائب الرئيس بعد أن يستقر الحزب الديمقراطي على مرشحه للرئاسة في انتخابات نوفمبر القادم (إيفان باي). ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي أشارك فيها مع هذا الجمع، أو جمع مشابه، في ورشة عمل ينظمها المعهد المذكور، ويجمع فيها ما بين أعضاء الكونجرس ومجموعة من الخبراء والمتخصصين في شؤون الشرق الأوسط. ولم يكن مثيرا فقط في ورشة العمل الطريقة التي تم بها الحوار وتبادل الرأى بين الأعضاء والخبراء، ولا ذلك الانفراد العمدي الذي يتم بين كل عضو في الكونجرس وأحد الخبراء خلال وجبات اليوم الثلاثة، ولكنه كان ذلك الحوار الحي والخصب الذي يجري بين الأعضاء أنفسهم، ليس فقط حول موضوع، أو موضوعات الشرق الأوسط، وإنما حول السياسات الأمريكية بشكل عام، الخارجية والداخلية.

وفي وقت ومقال آخرين ربما نعود مرة أخرى لوصف وشرح ما جرى في ورشة العمل هذه، ولكن ما يهمنا منها هو أن الشعوب الحية لا تكف أبدا عن الحوار حتى يصبح واحدا من صور الحياة نفسها، باعتبار ذلك واحدا من أدوات التفاهم لبناء الإجماع والتوافق الوطني حول قضايا عديدة هي بطبيعتها معقدة ومستعصية على الحل. وبالنسبة للأمريكيين هذه المرة فقد كانت الأوضاع الاقتصادية الأمريكية صعبة، وأثار الإخفاق في العراق وأفغانستان بادية، وهناك قدر كبير من الحيرة والتردد في عام متوتر بطبيعة الانتخابات الرئاسية الأمريكية الساخنة. ومع ذلك كان الحوار والنقاش جاريين يحاول فيهما كل طرف أولا أن يلم بأطراف القضايا والمسائل المعروضة، ويعرف ما كان غائبا من تفاصيلها من خبراء مشهود لهم بالمعرفة، وبعد ذلك يتأكد ثانيا من أن وجهة نظره المعروضة قد تم فهم أصولها ودوافعها، وثالثا يبحث مع الجميع عما إذا كانت هناك سياسة من نوع أو آخر تصلح لتغيير أوضاع مؤلمة. وعلى مدى ستة أيام من المناقشات المكثفة كان واضحا أن هناك خمس نقاط للتوافق قد توصل لها الجميع من منطلقات مختلفة، بعضها عملي، والآخر مبدئي أو آيديولوجي، وأولها ضرورة الخروج من العراق، أو بتعبيرات أخرى فك الاشتباك معها، بعد أن باتت الاستراتيجية الراهنة «للتصعيد» التي وضعها الجنرال دافيد بترايوس، والقائمة على الإحلال التدريجي للقوات العراقية محل القوات الأمريكية في الحفاظ على الأمن، مبشرة بتوفير غطاء مقبول للخروج الأمريكي حيث تنتقل فيه القوات الأمريكية تدريجيا من دور «القائد» إلى دور «المراقب الاستراتيجى». وثانيها تحقيق نوع من الاشتباك Engagement يوفر غطاء مقبولا للخروج من العراق كذلك الذي وفرته الصين في السبعينيات للخروج الأمريكي من فيتنام. ولم يكن التوصل إلى هذه النتيجة ممكنا إلا عندما تم استبعاد الحل العسكري للمعضلة الإيرانية، كما حدث في الماضى مع الصين والاتحاد السوفيتي، نظرا للثمن الفادح للعمل العسكري من ناحية، وعدم قبول الشعب الأمريكي للتضحيات اللازمة لهذا العمل. ولكن مثل هذا الاشتباك لا يعني أن إيران سوف تتوقف عن كونها خصما للولايات المتحدة، ولكن معناه تغيير قواعد اللعبة من المواجهة إلى إدارة تناقضات حادة بطبيعتها. وعلى أي الأحوال، ولاعتبارات المساحة، ربما يكون مكان التفصيل في هذه الاستراتيجية مقال آخر.

وثالثها هو إعادة النظر في توازن القوى الراهن في الشرق الأوسط، فمن طبيعة الأشياء أن الاشتباك مع إيران سوف يكون له ثمن سياسي واستراتيجي كما حدث مع الاتحاد السوفيتي عندما تنازلت الولايات المتحدة والغرب عن منطقة شرق أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وكما تنازلت واشنطن وحلفاؤها للصين عن منطقة الهند الصينية خلال السبعينيات. ولكن في كل الأحوال فإن التنازل لإيران لن يعني استسلاما لها، وإنما إعادة تشكيل التحالفات في المنطقة بحيث لا يؤدي إلى سيطرة إيرانية على المنطقة كلها. وربما كان ما جرى في لبنان مؤخرا، ومعه إعادة المفاوضات الإسرائيلية السورية إلى العمل جزءا من التحضير لهذه العملية.

ورابعها، أن البرنامج الأمريكي لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط، على الطريقة التي كان يقوم بها جورج بوش وإدارته، قد حانت ساعة أفولها؛ ليس لأن الولايات المتحدة فقدت اعتقادها في الديمقراطية باعتبارها النظام الأمثل للحكم، ولكن لأن الطريقة التي سارت بها الأمور أفقدت لواشنطن حلفاءها، والأخطر أن نتائجها الاستراتيجية كانت فادحة. وبناء على ذلك فإن تشجيع «القوى الديمقراطية» من خلال تمويلها سوف تتغير للتركيز على تنمية «شروط» الديمقراطية القيمية والمؤسسية والسوقية أيضا حيث تقل نقاط الاحتكاك مع النظم الحاكمة من ناحية، وربما توفر البيئة المناسبة للتطور الديمقراطي في النهاية.

وخامسها، وربما أهمها على الإطلاق، هو أن الولايات المتحدة تحتاج إلى تحقيق «استقلال الطاقة» والذي بمقتضاه ينقص اعتماد الولايات المتحدة على نفط الشرق الأوسط، والخليج بصورة خاصة. ومن هذا المنطلق فإن الارتفاع الحالي في أسعار النفط لا يمثل فقط مخاطر كبيرة من حيث تأثيراته التضخمية على الاقتصاد العالمي عامة والاقتصاد الأمريكي خاصة، وإنما يوفر فرصة كبيرة من أجل تحقيق قفزة حقيقية في توليد المصادر الأخرى المتجددة للطاقة.

ومنذ أسابيع قليلة كنت قد أشرت في هذا المكان إلى النتائج الاستراتيجية للارتفاع غير المفهوم اقتصاديا لأسعار النفط، وتجاوزه لكل ما هو معروف من علاقات العرض والطلب، وقد أكدت ورشة العمل هذه على أن السياسة الأمريكية للاستقلال قد بدأت بالفعل. ولكن ذلك التوافق الأمريكي حول الطاقة ليس هو الوحيد الذي سوف تكون له تأثيراته البعيدة المدى على منطقتنا، سواء ما تعلق بالعراق أو إيران أو إعادة تشكيل توازن القوى في المنطقة. لقد آن الأوان للتفكير في ما بعد بوش، وإلا فسوف نكون أسرى تفاعلات لا نعرف عنها شيئا؟!